أخبار عاجلة

أخرِجوا التربية من زواريب السياسة

البروفسور جان داود

بوابة التربية: كتب العميد البروفسور جان داود: أطنان من نيترات الأمونيوم غير المنظور والنووي المستور تهز التربية في لبنان بصمت ثقيل منذ أربعة عقود ونصف، وعدم الدراية أو اللاكتراث أو الإهمال يسود. لم ولن تسمعوا صوت الانفجار الكارثي الصامت. ولن يكون وقت لاعتذار، الضرر الحاصل في التربية بحجم الأضرار التي تسبّبت بها جريمة انفجار بيروت، ولا أبالغ. نيترات الأمونيوم والنووي المنظَّف في انفجار التربية الصامت كان دخول السياسة والسياسيين إلى التربية مدرسةً، جامعات، مناهج، مؤسّسات وخطط، ووزارة تربية نفسها. ولعلّ جريمة مرفأ بيروت في جزء منها مسؤوليّة فساد في التربية.

إنّ إعادة إعمار بيروت أولوية أساسية من دون شك. وإعادة الحياة إلى الاقتصاد أولوية أساسية من دون شك أيضاً. ولكنّ أيّ عمل محاط بروح الفساد لن يعيد إلى بيروت ولا إلى لبنان روح بيروت ونقاء لبنان. والخلاص من الفساد، حتى السياسيّ منه، لن يكون إلا بالتربية. نعم التشريع النظيف  والالتزام بالقوانين مسار، لكنّ الحماية لا تكتمل إلا بزرع لقاح ضد الفساد عبر التربية بمكوّناتها ومساراتها. الأمر الذي يفرض وبإلحاح إبّان العمل على تأليف هذه الحكومة وكلّ حكومة وضع وزارة التربية بين أيدي خبير صاحب رؤية وتجربة يُخرِج الوزارة من الفساد السياسي فيُخرِج بذلك البلد من دوامة العنف الداخلي الصامت حيناً والمُدوّي حيناً آخر.

إخراج التربية من الفساد تأخّر. مؤمنين بدور التربية عمِلنا بصمت، لكنّ الأمر كان في بعضه كمن يضيء شمعة في مهب الإعصار. بعض المؤسسات التربوية (وفي الأغلب هي خاصّة) تحمي نفسها من فساد السياسة. بات علينا رفع الصوت عالياً عالياً، وهو الوقت وإن مُتأخِّراً لتحرير وزارة التربية من مصالح مُستغِلّي الطائفية والطوائف والسياسة في أدنى وأسوأ مقارباتها. دخلت السياسة تحت ألف ذريعة وذريعة إلى التربية وبذرَت الفساد، ودكّت معالم الدّولة.

اللّصوص المتربّصون بلبنان ودولته وجدوا في لصوص السياسة خير عميل غير مُعلن، وربما غير مُدرِك، لخدمة طموحاتهم. تحوّلت السّياسة من خدمة المعرفة إلى تسييد الجهل، ومن خدمة الحرّية إلى قمع الحريات، ومن إحقاق العدالة إلى منع إحقاق الحقّ، ومن حماية المُلكيّة إلى اغتصاب للمُلكيات، ومن الحفاظ على الحقوق والقوانين إلى الاحتيال على القوانين و”قوننة” اغتصاب الثروات والحقوق والكرامات، ومن إقامة الحكومات الملتزمة بالدولة وبخدمة الشرعيّة إلى الحكومات الملتزمة بمصالح المزعومين أحزاباً وتيارات ومن يُهمَس بتسميتهم ملوك الطوائف والمليشيات. باتت شرعيّة كثير من الوزراء في الحكومات من أصوات التهويل والتهديد أو من هول سلاح مُسالم أو أبيض أو خفيّ لمصالح قوى داخليّة وخارجية، باتت الوظيفة العامة وظيفة لدى سيّدِ أمرٍ قام بتوظيف الموظّف. بات الكثير من وظائف الدولة مجرّد راتب والدولة وأعمالها في إهمال.

بات أهل الكرامة من الموظفين والمواطنين في معاناة مع سرطان عامّ ينهش حياتهم وأحلامهم وحقوقهم ووجودهم. الهوية، والمعرفة، والثقافة، والجنس، والعرق، والدين، والمياه، والنفط، والثروات، والدواء، والسجون، والمرأة، والطفل، والشيخوخة، والبيئة، مُجرّد مفردات ومواضيع عامّة في خدمة مصالح خاصّة وإمساكٍ برقاب الشّعب ومقدّرات الوطن. ومن المأساة أنّ كثيراً من الأكاديميين والمحلّلين يدرك المشكلة، ويسقط في فخّ عصبيّة ما، يرى المشكلة ويوصّفها بشكل ممتاز إنْ تكلّم على الآخرين ويسكت عنها لدى من تربطه بهم مصلحة أو رابط طائفي أو حزبيّ. عرف التّاجر المتحكّم عبر السّياسة كيف يُحكِم قبضته على مفاصل الدولة. أتى بأزلامه إلى السلطة بأكثر من طريقة. اشترى المدارس والمؤسسات، اشترى أو فتح الجامعات، اشترى بعض أو أكثر النقابات، اشترى بعض أو أكثر المستشفيات، احتكر الماء والكهرباء والمولدات، بذر ثقافة الفساد، وسادت المنافسة في فساد وإفساد. ونحن نقاوم بلحمنا الحي ومناعتنا اللامتناهية، ونعمِّق إيماننا بأنّ الوطن عائد لا محال: يكفي أن نحمل إلى طلابنا، أو إلى قسم منهم على الأقل، مفاهيم القيم والدولة وأن نؤسس لديهم لشرعة ومفاهيم حقوق الإنسان، والفاسدون إلى زوال. إلا أنّ الخراب كبُر وكثُر وساد. وأسوأ الخراب ما حلّ بالتربية.

فساد في التربية

في استعراض للأضرار في التربية، أترك جانباً مسألة إعطاء الإفادات المخالفة للقوانين برأيي، والتي تمّت  بقرار سياسي وتدخُّل للسياسة في شؤون التربية فمنحت صكّ عبور إلى التحصيل الجامعي. وأترك في خانتها سنة كورونا هذه وما سينجم عنها في المجال التربوي من أثر كارثي (والمسألة هنا عالمية). لكنّ إعطاء الإفادات ما زال أقل سوءاً وضرراً بكثير من مسألة أخلاقيّة هي أم الفساد: الغشّ في الامتحانات الرّسمية، وغضّ النظر عن الغشّ، وقمع الشرفاء في مراقبة الامتحانات، وإقصاء أهل النزاهة عنها. استفحل فساد التربية في مراقبة الامتحانات الرسمية، وبحسب ما سمعنا من أكثر من تلميذ أن الفساد ما زال مستمرّاً. نسبة النجاح في البكالوريا اللبنانية كانت بين السبعة بالمائة أحياناً والثلاثين بالمائة قبل 1975، وباتت منذ العام 1990 تفوق السبعين بالمائة في استمرار (فاقت في العام 2018 مثلاً 80 بالمائة (بلغت في العلوم العامة 92% والاجتماع والاقتصاد 83% وعلوم الحياة 92% والآداب والانسانيات 80 %)).

وقاحة في الفساد

المُتداول في أوساط أكثر التلامذة أنّ نسبة النجاح العالية هذه لا تعود لنعمة ذكاء مُتجدّد حلّ على أجيال من دون سابقيها، إنّما تأتّى عن فساد في الامتحانات. نتج عن التساهل أو الغش دخول عشرات الآلاف إلى الجامعات. نصف هؤلاء بحسب معايير امتحانات ما قبل 1975 غير مستوفي الشروط لدخول الجامعة لكنّه حصل على شهادة جامعيّة خوّلته دخولاً إلى التعليم الرسمي والخاص معاً، والى القطاعات العامة والخاصة بما أثّر سلباً على نوعية الإنتاج في كل القطاعات، وحرم غالباً ذوي الكفاءة الأعلى من حيازة الوظائف. وهنا فخّ وأشراك: من يغشّ في الامتحانات ويأخذ أمثولة في التشاطر في الفساد أو في الوقاحة في الفساد، سيكون جزءاً من فساد لاحق بحسب ما تربّى. فكيف اؤتمن ويؤتمن مثلُ هؤلاء على مرافق عامة، وكيف اؤتمن ويؤتمن مثل هؤلاء على قضايا الناس كمعلّم أو محامي أو رئيس دائرة أو موظف في موقع ما أو حتى كحارس. من حمل شهادات غير مُستحَقّة وذهب إلى التعليم أدخل الفساد إلى العمليّة التربوية لعدم أهليّة. المُستوى العلميّ الحقيقي بمعايير ما قبل حرب الغرباء على لبنان لعدد هائل من حملة الإجازات اليوم من غير أهليّة هو مستوى حامل شهادة البريفيه، وبعض حملة الدكتوراه بمستوى طالب البكالوريا. وبات كثير من هؤلاء معلّمين في مدارس، يُدرّسون اللغة ولا يمتلكون اللغة. يدرّسون التربية المدنيّة وأسس التربية المدنية قد دكّت لديهم. يُدرّسون التاريخ من وجهة نظر تعبوية. يقضون على العقل النقدي بتعطيل العقل. بات كثير من هؤلاء يضع الخطط التربوية، أو صاحب قرار في المناهج، وبات يؤهّل مُعلّمين ويشارك في اجتماعات التخطيط التربوي لأنّه مُستوفي الشروط بالشكل. الاحتيال والاحتراف في الغش ذهب إلى تحويل الأنظمة ضد أهدافها. حتى بعض الامتحانات حيث هناك مقابلات تقام وتعطى علامات عالية لتعزيز فرص بعض على آخر.

سموم الغش

الامتحانات الشفهية في بعض المرافق لها وظيفتها، ولكن تم الالتفاف عليها فباتت سماً جديداً من سموم الغش. تبارى البعض في تبرير التشاطر والفساد، وسادت مقولات هناك مَن يحصلون على شهادات من دون وجه حق في هذه المنطقة أو تلك فلماذا لا نستفيد بدورنا من الواقع، استعرت المنافسة بين  المضلّلُ بهم في الفساد. وبدأت صخرة سيزيف في تدحرج لن نقوى عليه إلا باستراتيجيّة وخطط وقيادة تربوية يتمّ فيها إبعاد من أصابهم المرض العضال: السياسة والفساد واستباحة المُقدّس. وحده من ثارت عليه كرامته رفض لعبة الفساد في التربية فربح نفسه. وحدهم بعض المفتشين التربويين مانعوا وناهضوا الفساد في التربية والامتحانات. الهيئات التربوية في بعض المدارس ما زالت تحتضن خميرة جيدة. ولكن أمام حجم الفساد الهائل بتنا كمن يزرع في النار، لكنّنا لن نستسلم. وسط هذيان الغباء، واستقواء المصالح، تستعر مشكلة الوطن مع الفساد وهي في روح الفاسدين أولاً، ومع من يحمي الفاسدين ثانياً، ومع من يقبل بالفساد منذ زمن، ولكنّنا لن نستسلم. مصادر الفساد جهل وصلف وأنانية واستعلاء واستكبار، وينتج عن ذلك ما يساوي جريمة حرب كالتي حلّت بلبنان، ما حلّ بمرفأ بيروت هزيمة وعمل خبيث دؤوب وإثبات لفشل وتخلّف المُقصّرين العاملين على التجهيل والتعمية، لكنّنا سنقاوم. نعلن أنّ الحماية من الفساد كائنة بالتربية حيث وجب أن تسود القيم وحقوق الإنسان وجوهر الدّين ورفض التعصب وإنهاء التزمت والتبعيّة ويُبني العقل والإنسان الباحث المُبدع.

الحل بالتغيير الجذري

إن شئنا إخراج البلد من خانة الفشل والتخلّف والهزيمة، فلنبادر وبأسرع ما يمكن مع تشكيل هذه الحكومة وكل حكومة. هناك حاجة إلى تغيير جذري في المقاربة وأساليب العمل وإعادة تأهيل المعلمين ووضع المناهج والكتب، وطرق التقييم، والرقابة المستدامة على جودة التعليم، والاستعداد العميق والمسؤول لمسألة التعليم عن مسافة والتعليم المُدمج مُستدركين المخاطر ومُعزّزين الإيجابيات، ومقاربة المباني التربوية من فضاءات وقاعات وملاعب ومختبرات وشروط صحية وتأمين المستلزمات والظروف التي تكفل الأمان النفسي والمعنوي والتربوي والبيئي، وإعادة النظر بملاءمة التجيهزات والمختبرات والملاعب، وبناء شراكة حقيقية بين المؤسسة التربوية والأهل وروباطهم، والانتقال بالتربية إلى تربية إبداعية تنمّي الفرادة والجهوزية البحثية وتبني الشخصية العلمية وتُعزّز القيم، والمرونة، وتنتقل بالمتعلّم إلى باحث… (لن أطيل في وضع النقاط على الحروف).

بأيّ حال، في استراتيجية العمل الإنقاذي والثوري من داخل السلطة (إنْ هناك نوايا) وخارجها، يجب أن تكون مبادرات من الأنقياء.  وإن اضطررنا فلنذهب إلى عمل من خارج المؤسسات الفاسدة باستقلالية ولا تبعيّة. الثورة الحقيقية وقفة ضمير وإرادة ومعرفة ومشروع. الثورة الحقيقية وأمّ الثورات والإصلاح هي المعلّمات والمعلمون، أَخرِجوا الفساد السياسي من قنوات ومسار التربية، أَدخلوا التربية بنبلها إلى حيث أنتم. النهوض الحقيقي على أمدٍ متوسط يبدأ بالتربية وبإخراج وزارة التربية من أيدي السياسيين. أعيدوا خدمة العلم إلى المدرسة في الصفوف الثانوية على غرار الستينيات. أعيدوا حركة كشفيّة واحدة في المدارس بعهدة الجيش إلى كل لبنان. أَخرجوا التربية من زواريب الطوائف والمصالح والروتين الإداري والاستنقاع في أساليب تخطاها الزمن. لم يعُد مجدياً الإتيان بوزير لتسيير الأمور بحدّها الوظيفي الأدنى. ولن يُجدي الإتيان بوزير للسُّلطة من أجل السّلطة والتغريد الجذّاب أو المُنفّر. لننتزع وزارة التربية من لعبة المصالح فنرسم بها خارطة النهوض ونبذر بذور الوطن العائد إلى دوره في الداخل والخارج. استعادة الوطن تبدأ من وزارة التربية بوزير اختصاصي، صاحب رؤية تربوية، عابر للطوائف والثقافات والأحزاب وغير مرتهن إلا لضميره والمشروع الإنساني، بناء الإنسان والوطن يبدأ بالمدرسة ووزارة طليعيّة للتربية.

 

عن mcg

شاهد أيضاً

أعمال الصيانة والترميم في ثانوية فضل المقدم الرسمية تبدأ غداً

بوابة التربية: أعلن المكتب الإعلامي في وزارة التربية والتعليم العالي، أن المتعهد المكلف تنفيذ أعمال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *