أخبار عاجلة

الطّيّبة دَسكرَةُ الماء وصخرةُ الإباء

بوابة التربية: كتب يونس محمّد علي زلزلي:

هناك في أقصى جبل عامل، تربضُ الطّيّبة بجلالها المتسامي نحو السّماء، وجمالها المترامي بين تلالها المزنّرة بأعذب الغيوم وأوديتها المسوّرة بأطيب التّخوم. كأنّها واسطة عقد مرجعيون، وقلبها العطوف الذي يربط أواصر القرى العامليّة المجاورة والبعيدة (٢٣ قرية) بحبلٍ رحيمٍ من الماء الذي تغرفه من الليطاني بقُربة الحُبّ والإيثار تمتاحها قربةً إلى الله والإنسان في مشروع مياه جبل عامل المعروف بمشروع الطّيّبة، والّذي ناهز عمره سبعين عامًا.

والطّيّبة اسمٌ على مسمّى، فهي الدّماث السّهلة والأرض اللّيّنة التي تضمّ في تعاريج أثلامها حقولًا تتلألأ فيها الحبوب والخضار، وحدائق تضيء بالورود والأزهار، وكرومًا تخضوضر بأربعين ألف شجرة زيتون تتخلّلها أشجار التّين، لتحاكي جارتها دير ميماس في هذا البلد الأمين. وقد نأت عن زراعة التّبغ وشجونها، وشرعت تشَجّرُ طريقها إلى الليطاني بخمسة آلاف من أشجار الخرّوب الدّائمة الخضرة والحلوة الثّمار. وتهجّر الكثيرون من أبناء الطّيّبة، أو هاجروا بين جهات الوطن وأقطار الغربة. وصمد فيها الكثيرون، فكانوا شهداء وأسرى ومجاهدين. والطّيّبة هي السّبّاقة إلى فعل المقاومة، يوم امتشق علي شرف الدّين وولداه عبد الله وفلاح ومعهم محمود قعيق بنادق الصّيد وردعوا الاحتلال محاكاةً لمآثر الأبطال على التّلال في الطّيّبة وشلعبون وصفّ الهوا خلف الإمام موسى الصّدر والشّهيد مصطفى شمران؛ فعانقوا الثّرى بشهادةٍ زاكية وسلاحٍ كان ويظلّ زينة الرّجال في مواجهة عدوان الاحتلال. والطّيبة هي المثابرة على الصّمود بكوكبةٍ من الشّهداء الذين رفعوا بنادق العزّ وبيارق الانتصار من كانون الثّاني ١٩٧٥ إلى أيّار ٢٠٠٠ إلى تمّوز ٢٠٠٦ ، وقد كان لها في زنازين الاعتقال مئةٌ من أبنائها الأسرى المعانقين الشّمس والمعاندين جلّادهم حتّى بزوغ فجر الحرّيّة والتّحرير.

هذه الحاضرة الجنوبيّة الّتي فتحت ذراعيها لليطاني، لتملأ به خوابي العطاء وجرار السّخاء، فتحت ساحتها أيضًا سوقًا مشهودًا بين القرى، ومحجّةً يؤمّها النّاس كلّ أربعاء، لتعقب في مرجعيون ثلاثاء سوق الخان في حاصبيّا في تنافسٍ تجاريٍّ ودّيّ قديم العهد. وهي كانت مقصد الجنوبيّين في السّياسة والرّياسة والدّنيا والدّين، حتّى قيل في موّالٍ مأثور إنّها “كعبة جبل عامل”: عالحجّ بطّلْنا السّفر كعبة جبلنا الطّيّبة”. وقد مكث فيها آل الأسعد بعد أن قدموا إليها من تبنين في زمن الجزّار. وما زال قصر آل الأسعد (العَمْرَة) بأطلاله الدّارسة جاثمًا على إحدى التّلال، يستنطق تاريخ البيت الوائليّ وبكواته المتعاقبين من خليل إلى كامل وعبد اللطيف(الذي خلّده حِداء علي هيدوس الشّهير ذات انتخابات: بشكوف خبّر دولتك سلطاننا عبد اللطيف باريس مربط خيلنا ورصاصنا قلّط جنيف)؛ فأحمد ثمّ كامل. والطّيّبة قبل أن تكون قصر الزّعماء، كانت قبلة العلماء ودوحة الشّعراء، فقد برز فيها الشّيخ ابراهيم بن يحيى العامليّ الطّيبيّ عالمًا متبحّرًا وشاعرًا نَظَمَ معظم ديوانه على حُبّ النّبيّ وأهل بيته الكرام. وهو والد الشّيخ عبد الحسين صادق أوّل من أنشأ حسينيّةً في النّبطيّة في العام 1909. وآل صادق الموزّعون بين الخيام والنّبطيّة، يتحدّرون من عائلة يحيى في الطّيّبة. ولا يغيب في هذا المقام أثر الشّيخ محمّد قعيق العامليّ والسّيّد حسن عبّاس والشّيخ حسين قازان وسواهم من تفاصيل المشهد الدّينيّ والاجتماعيّ والثّقافيّ والأدبيّ في الطّيّبة.

وتطالعنا في هذه البلدة العامليّة الكثير من البيوت القديمة بحجرها الصّخريّ العتيق، تمتدّ من العين الفوقا القديمة إلى العين التّحتا وبيدر الفقعاني وبريك والرّبابيّة، كذلك، يرتسم المشهد التّراثيّ عينه في البيوت المتناثرة على جوانب طرقاتها المؤدّية إلى عدشيت القصير والقنطرة وربّ ثلاثين والعديسة ودير سريان. وفي اقتران الصّخر بالماء، تتجلّى الطّيّبة سهلةً على الصّديق وصعبةً على العدوّ، هي دوسرٌ من صخر وكوثرٌ من ماء ينساب في أودية الليطاني والحجير، فيشنّفُ بترجيع مائه آذان السّماء، ويتشوّفُ بنجيع شهدائه عيونها وجنانها. ولعلّ عين الطّيّبة الفوقا بدرجها الحلزونيّ المنحدر عميقًا في الأرض، والمتحدّر بناؤه وبقاؤه إلى أيدٍ فينيقيّة ورومانيّة وعثمانيّة ولبنانيّة متعاقبة هي واحدةٌ من أجمل عيون لبنان، وقد زيّنت صورتها بعدسة المصوّر كامل جابر في العام 2018 طابعًا ماليًّا تذكاريًّا جعلها مَعلَمًا من معالم لبنان الذّائعة الصّيت.

ولأنّها طيّبة، فإنّ الطّيّبة لم تنس كبارها، فأنشأت لهم بيت المحبّة يغمرهم بجناح رحمة في سنوات الهَمّ والهَرَم. وهي على وفرة حسينيّاتها وجوامعها القديم منها والحديث، تمنطقت بالقراءة والثّقافة، فجعلت الحسينيّة القديمة مكتبةً عامّة، وأنشأت مركزًا ثقافيًّا، وزادت إلى مساحاتها الخضراء حديقةً عامّة وحديقة مطلّ التّحرير، وقامت بتشجير المشاعات وتلّة العويضة بآلاف الأشجار الحرجيّة، وجعلت حرج الأشجار المزروعة فيها محميّةً طبيعيّة يرتادها القاصي والدّاني للتّرويح عن النّفس واستنشاق نسيمها الرّقيق واستراق لحظاتٍ ورديّة في ظلالها الوارفة وجوّها المؤنق البديع.

بعد هذا الطّواف في ربوع الطّيّبة، تلك البلدة الخضراء في قلب الجنوب والدّرّة الحسناء في جيد الوطن، نثمّن دعوة أهلها النّاس في كلّ موسم أن “لاقونا على الطّيّبة”، وندرك أنّ في هذا المكان لونًا لم نجده بعد، على حدّ قول ابن الطّيّبة والفنّان التّشكيليّ العالميّ الرّاحل وجيه نحلة. كي نجد هذا اللون، ليس علينا إلّا معاودة السّعي مرارًا ومكابدة الطّواف تكرارًا على دروب الطّيّبة، وفي أوديتها ومغاورها ومعابدها ومساجدها وخِلَلِها وقِلَلِها وتلال عمرانها وخِلال إنسانها، أو بين مغانيها ومعانيها وأغاريد طيورها وأناشيد رُعاتها. لعلّنا نستنطق الماء والبشر والحجر والشّجر والمَدَرَ والوَبَرَ عن تلك البلدة الطّيّبة وما تكتنفه من أسرار البهاء الخلّاب الّذي يبهر العيون ويسحرُ الألباب، فترتاد مطارح الجمال بالرّؤية والتّفكير والعاطفة والتّصوير، لتغرف من معينها الرّيّان ومعناها الفتّان ما تشتهي من صورٍ وخواطرَ وتأمّلات. كرمال(كرمى) عين الطّيّبة، اندلق الحبر مسكوبًا بالحُبّ: “تكرمي مرجعيون. لعيونك يا جبل عامل .دمت لنا يا جنوب. عشت يا لبنان”.

عن tarbiagate

شاهد أيضاً

ثلاث طاقات متخصصة من الجامعة اللبنانية عمداء في جامعات بريطانية

بوابة التربية: عين رئيس جامعة التايمز البريطانية المفتوحة في لندن، السيناتور البروفسور مخلص الجدة، Thames …