بوابة التربية: ميساء عصفور*:
تُعد المؤسسات التعليمية بمثابة المحرك الرئيسي لتقدم المجتمعات وتطورها، فهي الحاضنة التي تُعِد الأجيال وتُصقل مهاراتهم لمواكبة متطلبات المستقبل. في عصر يتسم بالتغيرات المتسارعة على الصعيدين التكنولوجي والاجتماعي، وتزايد حدة المنافسة بين المؤسسات، أصبح تطبيق معايير الجودة الشاملة (Total Quality Management – TQM) ضرورة ملحة وليست مجرد خيار استراتيجي. يهدف هذا النهج الإداري المتكامل إلى تحقيق رضا جميع الأطراف المعنية – من طلاب ومعلمين وإداريين وأولياء أمور وسوق عمل ومجتمع – من خلال التحسين المستمر والممنهج لجميع العمليات والخدمات التعليمية والإدارية. يتناول هذا المقال الأثر العميق والمتعدد الأوجه لتطبيق هذه المعايير على نجاح وتقدم المؤسسات التعليمية، مستعرضًا فوائدها ومُبينًا التحديات التي قد تواجهها.غ
إن تطبيق الجودة الشاملة في قطاع التعليم يتجاوز النظرة التقليدية لجودة المناهج الدراسية أو كفاءة الكادر التعليمي فحسب. إنها في جوهرها فلسفة إدارية شاملة تُعنى بجميع جوانب العملية التعليمية والإدارية، وتُؤمن بأن الجودة مسؤولية جماعية تتطلب مشاركة الجميع. تعتمد هذه الفلسفة على مبادئ أساسية، منها: التركيز على المستفيد (الطالب) كمحور للعملية، القيادة الفعالة والملتزمة التي تُشجع على التغيير، إشراك جميع العاملين وتمكينهم ليُصبحوا جزءًا فاعلاً من عملية التحسين، تبني منهجية العمليات لتحليل وتطوير الإجراءات، التحسين المستمر كرحلة لا تتوقف، واتخاذ القرارات بناءً على الحقائق والبيانات، بالإضافة إلى بناء علاقات شراكة مُثمرة مع الموردين وأصحاب المصلحة. يتضمن ذلك التحسين المستمر للأداء في كل مرحلة، بدءًا من تصميم البرامج التعليمية المبتكرة التي تلبي احتياجات سوق العمل، مرورًا بأساليب التدريس الحديثة والتقييم الشامل، وصولاً إلى توفير بيئة تعليمية محفزة، الموارد التعليمية المتطورة، وحتى الخدمات الإدارية والمساندة ذات الكفاءة العالية. الهدف الأساسي من هذه الفلسفة هو تلبية وتجاوز توقعات الطلاب، أولياء الأمور، سوق العمل، والمجتمع بشكل عام، مما يُعزز من دور المؤسسة كمُساهم رئيسي في التنمية المستدامة.
و لتطبيق الجودة الشاملة أثر ايجابي على نجاح وتقدم المؤسسات التعليمية في عدة نقاط محورية تُظهر التحول النوعي الذي تُحدثه:
- تحسين جودة المخرجات التعليمية: يُركز تطبيق الجودة الشاملة بشكل أساسي على رضا المستفيدين الأهم وهم الطلاب. هذا التركيز يدفع المؤسسات نحو تطوير برامج تعليمية مُبتكرة ومرنة، تُواكب أحدث التطورات المعرفية والتكنولوجية، وتُلبي احتياجات سوق العمل المتغيرة والمتطلبات المجتمعية. والنتيجة هي تخريج كفاءات مُجهزة ليس فقط بالمعرفة النظرية، بل بالمهارات العملية، التفكير النقدي، القدرة على حل المشكلات، والتعلم مدى الحياة. هذا بدوره يُعزز من فرص توظيف الخريجين، مما يُسهم بشكل مباشر في رفع مستوى التعليم ويُعزز من سمعة المؤسسة ويُمكنها من المنافسة بفعالية على المستويين المحلي والدولي.
- رفع كفاءة وفعالية العمليات الإدارية والتعليمية: تُحفز الجودة الشاملة على التحليل المستمر والدقيق للعمليات داخل المؤسسة، بهدف تحديد نقاط الضعف، تحديد الموارد غير المستغلة، واكتشاف فرص التحسين. هذا يؤدي إلى تبسيط الإجراءات البيروقراطية، تقليل الهدر في الوقت والجهد والموارد المالية، وزيادة الكفاءة في استخدام جميع الموارد البشرية والمادية. فعلى سبيل المثال، قد تُسهم في تحسين آليات التسجيل الإلكتروني، إدارة الامتحانات بشكل أكثر عدالة وشفافية، تطوير أنظمة الدعم الأكاديمي والإرشاد الطلابي، وتحسين إدارة الموارد التعليمية والمكتبات، مما يُخفف الأعباء ويُسرع الإنجاز.
- تنمية وتطوير القدرات البشرية: تولي الجودة الشاملة اهتمامًا بالغًا بـالتطوير المهني المستمر لجميع العاملين في المؤسسة، سواء كانوا معلمين، إداريين، أو فنيين. فهم العمود الفقري لتقديم خدمة تعليمية عالية الجودة. لذلك، يتم الاستثمار في توفير فرص للتدريب النوعي، ورش العمل المتخصصة، برامج التوجيه والإرشاد، وحتى بناء مجتمعات تعلم مهنية تُعزز من تبادل الخبرات والمعارف. هذا الاستثمار يُعزز مهاراتهم، يُنمي قدراتهم، ويُحسن من أدائهم، مما ينعكس إيجابًا على جودة العملية التعليمية بأسرها ويُسهم في رفع الروح المعنوية للعاملين.
- تعزيز ثقافة التحسين المستمر والابتكار: تُرسخ الجودة الشاملة مفهومًا أساسيًا مفاده أن التحسين ليس غاية يُمكن الوصول إليها ثم التوقف، بل هو رحلة مستمرة من التقييم، التطوير، والبحث عن الأفضل. هذا يخلق داخل المؤسسة ثقافة تنظيمية راسخة تشجع على الابتكار، التجريب المدروس، الإبداع في حل المشكلات، والبحث الدائم عن أفضل السبل لتقديم الخدمات التعليمية. يُصبح الجميع، من أصغر موظف إلى أعلى قيادة، شركاء فاعلين في عملية التطوير، مُتحملين مسؤولية التغيير ومُساهمين في ديناميكية المؤسسة وقدرتها على التكيف بمرونة مع التحديات والمتغيرات الجديدة.
- بناء سمعة قوية وزيادة القدرة التنافسية: في بيئة تعليمية تزداد فيها المنافسة على استقطاب الطلاب والموارد، تُصبح الجودة عاملاً حاسمًا في جذب الطلاب المتميزين، الكفاءات التعليمية والإدارية، والموارد المالية.
على الرغم من الفوائد العديدة التي تُقدمها الجودة الشاملة، إلا أن تطبيقها يُواجه بعض التحديات التي تتطلب تخطيطًا دقيقًا ومُعالجة استراتيجية. من أبرز هذه التحديات: مقاومة التغيير من بعض الأفراد داخل المؤسسة الذين قد يُفضلون الحفاظ على الوضع الراهن خوفًا من المجهول أو بسبب عدم فهمهم الكامل لفوائد التغيير، الحاجة إلى توفير تدريب مستمر وموارد مالية وبشرية كافية لتمويل برامج الجودة وتطوير الكفاءات، وضرورة وجود قيادة داعمة ومُلهمة تُؤمن بفلسفة الجودة الشاملة وتُشجع على تطبيقها وتُقدم الدعم اللازم. إلا أن تجاوز هذه التحديات يُعد استثمارًا استراتيجيًا طويل الأمد، يعود بالنفع الوفير على المؤسسة والمجتمع بأسره.
لم يعد تطبيق معايير الجودة الشاملة في المؤسسات التعليمية مجرد رفاهية إدارية، بل هو ركيزة أساسية لضمان بقائها، ازدهارها، وريادتها في المشهد التعليمي الحديث. إنها ليست مجرد مجموعة من الإجراءات الإدارية الصارمة، بل هي تحول ثقافي شامل يُحدث تغييرًا جذريًا في طريقة عمل المؤسسة وتفكير أفرادها. تُعزز هذه الفلسفة من قدرة المؤسسة على تقديم تعليم متميز يُلبي احتياجات المجتمع المتغيرة، يُسهم بفعالية في تقدمه الاقتصادي والاجتماعي، ويُعِد أجيالاً قادرة على بناء المستقبل.
– ناشطة تربوية
المراجع
- الجابر، سارة. (2018). تطبيق إدارة الجودة الشاملة في المؤسسات التعليمية وأثرها على تحقيق الميزة التنافسية. مجلة البحوث التربوية والنفسية، 3(2)، 115-130.
- التميمي، أيمن أحمد؛ ونبهان، فايزة أحمد. (2016). إدارة الجودة الشاملة في المؤسسات التعليمية. عمّان: دار صفاء للنشر والتوزيع.
- طعيمة، رشدي أحمد. (2017). الجودة الشاملة في التعليم الجامعي: رؤية تطبيقية. القاهرة: عالم الكتب.
- عليان، ربحي مصطفى. (2019). الجودة الشاملة في التعليم: مفاهيم وتطبيقات. عمّان: دار المسيرة للنشر والتوزيع.
- Zairi, M. (2013). Total Quality Management in Education: A Critical Review. Total Quality Management & Business Excellence, 24(7-8), 755-768.