بوابة التربية- كتبت د. كفاح بيطار:
بدأت نهضة المجتمعات الحضاريّة عندما تنبّهت هذه المجتمعات إلى ضرورة التّخطيط لأيّ عملٍ قبل البدء به، في جميع المجالات السّياسيّة والاقتصاديّة والحربيّة والاجتماعيّة والثّقافيّة والتّربويّة، فراحت تدرس الواقع، وتستشرف المستقبل، وتحدّد الأهداف، وتضع الخطط بغية بلوغها، وبهذا، اتّخذ التّخطيط سمة التّخطيط العام.
عُرف التّخطيط العام بمعناه الحديث والعالمي بعد الحرب العالميّة الأولى، حيث كان الاتّحاد السّوفياتي أوّل من استخدمه كنهجٍ وأسلوبٍ متّبعٍ من أجل تطوير القطاعات كافّةً، وبعد أن ظهرت نتائجه، وأُثبت فعاليّتُه في الحرب العالميّة الثّانية اقتصاديًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا وعلميًّا – إذ كان من ثماره الجليّة وصول أوّل رجلِ إلى الفضاء – انتشر وساد، فاستفادت أميركا من التّجربة السّوفياتيّة، التي ما لبثت أن تفوّقت عليها، أي تفوّق التّخطيط الرّأسمالي على التّخطيط الاشتراكي.
أمّا التّخطيط التّربوي، والذي هو جزءٌ أو فرعٌ من التّخطيط العام، فكانت بدايتُه في الاتّحاد السوفياتي والولايات المتّحدة الأميركيّة، ومن ثمّ انتشر في كلّ بلدان العالم.
إلّا أنّ هذا الجزء من التّخطيط العام يُعتبرالحجر الأساس الذي تُبنى عليه مداميك باقي القطاعات، بمعنى أنّ التّربية هي ضرورةٌ تفرضها متطلّبات التّنمية الشّاملة، فهي التي تُنتج الإنسان السويّ سلوكيًّا، والمتنوّر ذهنيًّا، والمتسلّح علميًّا، بحيث تُقدّم للمجتمعات الإنسان الصّالح الذي يُسهم في بنائها وتطوّرها في جميع الصُّعُد، والتّخطيط هو الأداة التي يتمّ بموجبها إدارة العمليّات بحسب أهميّتها وأولويّتها بشكلٍ منظّم يهدف إلى استغلال الموارد البشريّة والمادّيّة بشكلٍ سليم.
وبهذا يصبح أيُّ تخطيطٍ لا يتمُّ إلّا من خلال التّربية، وأيُّ قطاعٍ لا يزدهر إلّا بازدهارها، لأنّها العمليّة التي بواسطتها يُصقل الأفراد بالأفكار والمعارف والمهارات التي تخوّلهم أداء دورهم بشكلٍ فاعلٍ وبنّاء، أي أنّها جسر العبور الذي من خلاله تعبُر المجتمعات من دنيا التّخلّف والتّقوقع إلى دنيا الانبعاث الحضاري، ولأنّها باختصار تعمل على تأمين الموارد البشريّة، التي تُعدّ العنصر الأساس الذي يسهم في نجاح أيّ تخطيط.
ويصبح التّخطيط عمليّة إداريّة قياديّة، تُعنى بترتيب المشهد التّربوي وتنظيمه، واستثماره وتوظيفه في إنجاح القطاعات الأخرى.
وتجدر الإشارة إلى أنّ التّخطيط التّربوي يتمّ في مستوياتٍ إداريّةٍ عليا ممثّلةٍ بوزارة التربية والتّعليم، وتستوحي أهدافه من السّياسة العامّة التي تحدّدها الدّولة.
ولا بدّ من التّنويه هنا إلى أنّ الدّول التي كُتب لها النّهوض والتّطوّر هي الدّول التي وعت أهمّيّة التّربية، ودور التّخطيط التّربوي في الحفاظ عليها.
وبالنّظر إلى ماهيّة التّخطيط التّربوي وآليّة بنائه نجده: مجموعة من التّدابير يتمّ اتّخاذها من أجل تحقيق هدفٍ أو أهدافٍ مستقبليّة، أو هوعمليّة فكريّة استباقيّة، تنطلق من دراسة شاملة للواقع التّربوي بإيجابيّاته وسلبيّاته، ورصدٍ كاملٍ لحاجاته ومتطلّباته، فتَنشُد أهدافًا معيّنةً بناءً على هذا الرصد أو هذه الدّراسة، أي تكون غايتها تحديد مستقبل الأحداث، وتوجيه مسارها وفاقًا لأهدافٍ معيّنةٍ تريد تحقيقها.
ولا بدّ فيه من وضع سياساتٍ وقواعد لتنفيذه، يتمّ بموجبها تحديد الإمكانات الماديّة والبشريّة المتاحة فعلًا للتّنفيذ، ولا بدّ أيضًا من وضع البرامج التي تتناول تحديد الأنشطة، والخطّة الزّمنيّة اللّازمة لتنفيذها، وكيفيّة القيام بها، وتحديد الأشخاص المسؤولين عن تنفيذها.
ويقوم التّخطيط التّربوي على مبادئ أساسيّةٍ أهمّها: وضوح الأهداف، الواقعيّة، الشّموليّة، المستقبليّة، التّوقيت، التّنسيق الاستمراريّة.
ويستند على توفّر هدفٍ معيّنٍ أو جملةٍ من الأهداف الموضوعة مسبقًا، والقابلة للتّطبيق، ولكي يكون التّخطيط علميًّا لا بدّ أن يستند على الأسس الآتية:
جمع البيانات اللّازمة عن موضوع التّخطيط، دراسة وتحليل المعلومات والبيانات اللّازمة عن موضوع التّخطيط، وتحليل المعلومات والبيانات التي تجمعها في محاولةٍ للإفادة منها، عمليّة المباشرة في وضع الخطّة بعد استكمال جمع المعلومات والبيانات وتحليلها، ثمّ تأتي عمليّة إعطاء الخطّة الصّفة القانونيّة الملائمة، وذلك باتّخاذ القرار المناسب بشأن تنفيذها.
ولا بدّ في التّخطيط من وضع الخطط البديلة لمواجهة احتمالات إخفاق الخطّة الرّئيسيّة عند التّنفيذ، إذ من الممكن أن تصطدم الخطّة بمعوّقاتٍ تجعلها غير قابلةٍ للتّطبيق كلّيّا أو جزئيًّا.
يتّضح ممّا ورد أنّ العمل التخطيطي لا يتمّ خبط عشواء، وإنّما هو عملٌ منظّم ومدروس يجب أن ينطلق من معايير مختلفة، حضاريّة تاريخيّة، اجتماعيّة واقتصاديّة، سياسيّة وتربويّة وعالميّة، وهي تكون بمثابة المحدّدات التي ينطلق من خلالها المخطّط في عمله وإلّا يقع في الفشل الذّريع، فلا نفع لأيّ مخطَّط لا يراعي الواقع الحضاري والتاريخي للبشر من مثل الدين واللّغة والانتماء، ولا نفع لمخطّط يهمل الجوانب الاجتماعيّة السّائدة أو الموارد الاقتصاديّة المتاحة، بخاصّةٍ أنّ التربية هي تجسيد لهذه المجالات كافّة، تمثّلها وتتمثّل بها.
وأبعد من ذلك عليه أن ينسجم ويواكب التّطوّرات العالميّة، والمخطِّط الناجح هو الذي يوائم بين ما هو محلّي وما هو عالمي لتخرج مخطّطاته مفيدةً ونافعةً وصالحةً للتّطبيق، لا تصطدم بعثراتٍ محلّيّة أو عالميّة.
من هنا يمكن السؤال، هل راعى المخطّطون التّربويّون في مجتمعاتنا هذه المعايير كلّها في أثناء عمليّة التخطيط؟ وهل أصابت مخطّطاتهم الأهداف المرسومة كلّها أم باء بعضها بالفشل؟.