بوابة التربية- كتب دكتور زاهر عبد الخالق*: بفضل عزيمة قلّ نظيرها، أنقذ أساتذة وموظفو الجامعة اللبنانية الأعوام الجامعية الثلاثة الأخيرة؛ أعوام قاسية تخللتها اضطرابات أمنية وحجر صحي، وصولاً” إلى الانهيار الاقتصادي ونتائجه الكارثية.
طيلة هذه السنوات العجاف، كرّس أهل الجامعة كل جهودهم وأساليب الصمود للاستمرار حتى استنفذوها. وفي هذا السياق، أتى التعليم من بعد – أونلاين مع التشدد بإجراء الامتحانات حضورياً، رغم الصعوبات اللوجستية والمادية والمخاطر الصحيّة، بهدف المحافظة على معايير الجودة في التعليم والتقييم.
طيلة هذه الفترة، لم يستكن العمل النقابي في الجامعة اللبنانية، وذكّرت الهيئة التنفيذية ومجلس المندوبين بشتى الوسائل المسؤول بواجباته تجاه المؤسسة الوطنية “الوحيدة” للتعليم العالي، وأكاد أقول “اليتيمة” من دون رعاية كفيل. واستفحل الإهمال المزمن والمتعمد بذريعة الفراغ الحكومي أو تصريف الأعمال، وتكرر على شكل “حنكة سمجة” أو “شطارة” باتت مكشوفة للعيان، تارة بمشروع قانون معجل مكرر، يُعد ولا يُدرج على أي جلسة، أو بمرسوم لا يُقر، بالإضافة إلى وعود وعهود يتم نكثها بعد الاتفاق عليها، وتأتي حصيلة تحركات واعتصامات أو إضراب أو “توقف قسري”، كما حصل مؤخرًا. فمن يخرجنا من هذه الحلقة المفرغة التي تتمحور حول انعدام الثقة بأهل الحل والربط في الجمهورية اللبنانية؟
منذ بداية العام الدراسي الحالي، عادت سائر المؤسسات التربوية بكافة مراحلها إلى التعليم الحضوري، أو أقله التعليم المدمج (حضوري + أونلاين)، بسبب خصوصية المقررات الإجرائية والأعمال التطبيقية والمخبرية وغيرها. وهذا الأمر تدركه رئاسة الجامعة اللبنانية وممثلي أساتذتها، وأشاروا إليه مرات عديدة. ومع ذلك، حذّر رئيس الجامعة اللبنانية أ. د. بدران، عن معرفة ودراية، من أنّ هذه العودة على أهميتها هي رهن تأمين المقومات الضرورية للعام الجامعي 2022-2023. فكيف لميزانية تقلصت من 270 مليون دولار إلى حوالي 14 مليون دولار، ولم تتم زيادتها لغايته، أن تؤمّن الكلفة التشغيلية للمجمعات والفروع، وشراء محروقات المولدات وتسديد الزيادات على بدلات النقل، إلخ؟
ومن جهة أخرى، فقد الأستاذ المتعاقد، الذي يقبض بدل ساعاته “كل سنة مرة”، قدرته على الالتزام بالتعليم الحضوري مع أجر ساعة يتراوح ما بين 60 إلى 100 ألف ليرة لبنانية وغياب مطلق للتأمينات الصحيّة والاستشفائية. وبات المتعاقد – المتفرغ ومن هو في الملاك يعاني أيضًا مصيرًا بائسًا مع راتب شهري لا يتخطى المئتي دولار كمعدل وسطي. وما يفاقم الأمر سوءًا تدهور تقديمات وخدمات صندوق تعاضد الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية إلى حدود العجز عن تأمين فاتورة الدواء والاستشفاء. كما لم تعد قيمة المنح التعليمية تغطي شيئًا يذكر من الأقساط وتوابعها من نقل وكتب، الخ. والموظف والمدرب والطالب يعانون بدورهم الأمَرّين.
إنّ الجامعة اللبنانية التي مُنيت مُؤخرًا بنكسة متعددة الارتدادات بسبب عدم زيادة موازنتها بالشكل المطلوب، وعدم إقرار ملفاتها الحيوية والأساسية في جلسات مجلس الوزراء (تعيين عمداء، إقرار ملف التفرغ، إدخال الأساتذة المستوفي الشروط للملاك، وملف المدربين) ترزح اليوم تحت شتى أنواع المعاناة. وهي لن تستطيع تحقيق ذاتها وتأدية رسالتها من دون تأمين الاستقرار الوظيفي لأساتذتها وموظفيها ومن دون الدعم اللوجستي والمادي لأهلها.
لم يعد الوضع يحتمل وعودًا “عرقوبية” إضافية، أو أية وعود “فارهة” و”فارغة” من ناحيتي المضمون واحتمالية التطبيق. بات الوضع هشًّا على جميع الصعد. فمشروع العودة إلى التعليم الحضوري يتطلب حتمًا رؤية طموحة، وقبل أي شيء خطة مرسومة بعناية تتحلى بالواقعية، وقابلة للتنفيذ.
يُعبّر الأساتذة اليوم في جلساتهم النقابية وعلى مواقع التواصل عن هواجسهم وعن خوفهم على مصيرهم ومصير جامعتهم. ويجيبون سلفًا جميع من سيحاول ثنيهم عن مطالبهم و”تمرير” أي قرار لعودة غير محسوبة العواقب، باستعمال الإقناع بواسطة القيم وحجج “التضحية” و”الرسالة” التعليمية، مرددين المقولة المعروفة:
On ne vit pas seulement d’amour et d’eau fraiche.
ليس بالحب ولا بالماء العذب فقط يحيا الإنسان.
*أستاذ جامعي – أمين سر مجلس المندوبين – رابطة الأساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية.