
خاص بوابة التربية: كتب د. *نظير جاهل:
في ظل انكشاف فساد قوى السلطة وارتهانها ومنهبتها الكبرى والانهيار الوطني الحاصل وإفلاس الدولة وترسيخ وصاية صندوق النقد الدولي، السؤال الذي تطرحه اليوم نتائج انتخاب مندوبي رابطة أساتذة الجامعة اللبنانية هو: لماذا استطاعت القوى السلطوية الطائفية أن تعيد إنتاج سيطرتها على الرابطة، وعلى ماذا تتوافق، وهل أنّ تقدم مواقع “الأساتذة المستقلين” يؤشر إلى نشوء وجهة استقلالية فعلية ام انه مجرد مساكنة؟ مساكنة تقوم على السكوت عن السبب الحقيقي الذي أدى إلى تكريس الرابطة كشبكة سلطوية ثانية بتفشيل لجنتها المركزية للإضراب الاخير، الذي شكل لحظة مهمة في تاريخ الجامعة سبقت زمن الانهيار الوطني الراهن .
الرابطة والاضراب الاخير
واجهت الرابطة في الإضراب المفصلي الأخير موازنة تنذر بإنهاء دور الجامعة الوطنية من قبل خبراء صندوق النقد الدولي، بعد أن ارتهنت القوى السياسية الطائفية له من خلال مراكمة الدين العام ونهب المال العام وإفساد مؤسسات الخدمة العامة وأهمها إلى جانب الكهرباء… والمدرسة الرسمية: الجامعة الوطنية.
لقد أقرت هذه الموازنة تحت عنوان “الإصلاح” آنذاك بإجماع القوى الحكومية القابضة على الرابطة.
ورغم ذلك اتجه ممثلوها، الذين أخذوا مشروعيتهم تاريخياً من لعب دور الوسيط بين هذه القوى وبين الأساتذة باتجاه تحصيل الحقوق أو المكاسب، إلى مواكبة زخم الإضراب الذي بدا أنه يعبر عن الانتقال من المطالبة التفصيلية بالحقوق المهنية بالتفرغ والملاك والرواتب، ليطال المنطق الكامن وراء سلبها والمتمثل “بالموازنة الإصلاحية”. غير أن هذه الوساطة استهلكت تدريجياً مع تقدم الإضراب وصمود الأساتذة وتحولت مواقع الأحزاب الحكومية، وخاصة في الهيئة التنفيذية إلى مواقع ضغط لإحباط الإضراب، متجندة للدفاع عن منطق الوصاية المالية الدولية المرتهنة لها.
لم تكتف القوى الحكومية القابضة على اللجنة التنفيذية في الرابطة بشلها، من خلال استخدام نظامها الداخلي ضد تحرك اساتذتها باسم الحرص على الطلاب والعام الدراسي، بل أن بعض أطرافها حرك مكاتبه التربوية واطره التعبوية لقمع التحركات الطلابية المساندة للإضراب…
جاء تحرر هيئة المندوبين من قبضة القوى الحكومية على الهيئة التنفيذية.. في ذلك السبت المشهود بتاريخ الجامعة (22/6/2019)، حيث قررت استكمال الإضراب بأغلبية ساحقة استشعاراً واستشرافا عملياً لنهاية دور القوى الحكومية التوزيعي -وهو ما اتضح اليوم بعد الانهيار الشامل- وكونها في مواجهة مباشرة مع موازنة صندوق النقد، الذي يؤسس رؤيته بالاصل على اعتبار الجامعة الوطنية ترفا غير منتج .
غير أن هذه الطاقة التي أنتجها هذا التحرر بددت. وما حال دون أن ترسي وجهة استقلالية حقيقية إنما قرار رئيس الهيئة التنفيذية (د. يوسف ضاهر) وبعض أعضائها بالتراجع عن استقالتهم الذي حال دون المحافظة على الفعالية التي انتجها موقف المندوبين لتثبيت راية نقابية مستقلة لوجهة استقطابية توحيدية جاذبة.
الانتخابات الراهنة والمستقلون الجامعيون
لم يكن التراجع عن الاستقالة حفاظا على الرابطة التي استولت عليها القوى السياسية وانهارت بفعل تفلت الأساتذة منها كما يوحي بيان “الجامعيون المستقلون”، فيستعيد ما حصل في هذه اللحظة الحاسمة من الإضراب بلغة إنشائية لاتستخلص منه العبر لتؤسس عليها، حيث يرد: “..وقد شهد مجلس المندوبين 2018-2019 على أبهى تجليات العمل الديموقراطي الحر في نقض قرار الهيئة التنفيذية في22 حزيران 2019 وكانت انتفاضة الأساتذة واستمرارهم باضرابهم الصعب والمجيد بمثابة البطاقة الحمراء التي رفعوها خمسة أشهر قبل انتفاضة 17 تشرين…”
والواقع أن الرجوع عن الاستقالة باسم شعارات الديمقراطية أدى إلى ترنح الإضراب واجهاضه وتكريس هيمنة القوى الحزبية على الرابطة باسم أبهى مظاهر الديمقراطية التي تستعاد الآن بخطاب غائم..
المسكوت عنه هنا، هو أن استقلالية الرابطة لا تتحقق بالفرز بين الأستاذ ذي “الذهنية الطائفية” والاستاذ ذي “الذهنية العلمانية”(؟!) بل بالعودة الى المنطق الذي أرساه المندوبون بكسرهم للقرار الحزبي القابض على الرابطة، وذلك لرسم وجهة استقلالية فعلية لخروج الاستاذ الجامعي من قبضة الأحزاب الطائفية، بعد أن تبيّن زيف قدرتها التوزيعية وخضوعها ل”قدسية” موازنة وصاية صندوق النقد المرتهنة له وفقدانها هامشها على المناورة بفعل منهبتها الكبرى التي لم تكن قد اتضحت بعد بكل آثارها الكارثية..
إنً تغييب هذه الوصاية الآن في ظل وضوح دورها بعد هذا الانهيار الوطني الشامل الذي تلا الإضراب وما يزال، وربط أزمة الجامعة بالذهنية الطائفية بما هو مصطلح غائم خاو من اي فعالية يحدث فرزاً وهمياً في جسم الأساتذة ويضعف قدرتهم على التفلت من قبضة القوى السلطوية ويشتت طاقتهم على الموتهجة.
تصرفت القوى السلطوية والأساتذة الموالون لها في الانتخابات التي جرت مؤخرا، وكأن شيئا لم يكن وكأنما لا مسؤولية لهذه القوى عن الانهيار الوطني الراهن واسسوا على إحباطهم الاضراب لشل الرابطة من جديد لما قد يكون لها من فعالية في ظرف انكشاف فساد القوى السلطوية وارتهانها .
وقد غيّب الأساتذة المستقلون هم أيضا فشل الاضراب محاولين استثمار ما ولده من طاقة في وجهة “ليبرالية- ثورية”، طغت على طلائع الانتفاضة التي لا يبدو أن لشؤون وشجون الجامعة الوطنية الفعلية مكاناً فيها …
الرابطة في مواجهة رهن الجامعة إلى صندوق النقد الدولي
لم تـُحوَّل الجامعة الوطنية إلى حقل محاصصة طائفية إلا لانها نشأت محكومة من حيث توازنات الكيان اللبناني وغلبة وصاية الخارج عليها، محكومة بضرورة اعاقتها وتقليصها لإعادة إنتاج هذه الغلبة. وبالفعل شهدت الجامعة نهوضها الاول في المرحلة الشهابية التي عبرت عن التراجع النسبي لهذه الغلبة، وعن تفلت نسبي من التبعية للخارج وكذلك ما بعد الحرب الأهلية، وفي إطار اتفاقية الطائف، بحيث تم بناء تجمعها المركزي في (منطقة) الحدث، لتعود لتفرغ من فعاليتها وتتحول إلى حقل محاصصة وصفقات بذوبان هذا الاتفاق بالوجهة النيوليبرالية والتوازن السلبي الدولي الإقليمي الذي حول لبنان الى ساحة وما يزال …
ولذلك من الملفت أن يتضمن بيان جامعي مفاهيم مشوشة توحي أن التبعية ترتبط بالذهنية الطائفية وليس بارتهان القوى السياسية بوجهة استتباعية للسيطرة الخارجية تحوًلها إلى أداة تفكيك وافقار للجامعة وللطواىف ومجموعاتها الأهلية على حد سواء .
قد لا يكون من الجائز تحميل رابطة أساتذة الجامعة اللبنانية مهمة الكسر الفوري لقبضة صندوق النقد عليها بتجفيف حصتها في الموازنة العامة، غير أن الأحجام عن ثلم وجهة تحكّمه في سياق صمود وتحرر الاساتذة واستذكار هذا الصمود اليوم لتسويق مفهوم للاستقلالية يفصل بين تسلط القوى الطائفية على الدولة ومؤسساتها وعلى المجتمع الاهلي وطوائفه وبين ارتهانها للخارج، يؤدي إلى طمس جوهر أزمة الجامعة الوطنية راهناً، وهو تعرضها بعد اكتمال الوصاية على هذه السلطة الطائفية المرتهنة الناهبة وتعطيل قدرتها على المحاصصة والتوظيف، تعرضها مباشرة إلى عملية تقليصها والغائها من قبل مركز هذه الوصاية المالية الدولية باسم الإصلاح والنهوض. ولذلك فإن تقاطع المستقلين مع ممثلي القوى السلطوية على التغافل عن فشل اضراب الرابطة لعدم تصديها الوصاية عليها من الخارج لا يؤدي الآن إلا إلى احياء منطقها القديم ودورها الفعلي المتمثل بتبديد الطاقة التي يولدها صمود الأساتذة في محاولاتهم الاستقلالية الفعلية في حقل “استقلالي” ليبرالي يخفي تبعية هذه السلطة للخارج الذي يتولى مباشرة ضرب الجامعة الوطنية .
وواقع الأمر أن هذه الانتخابات ونتائجها تظل محكومة بتدهور الوضع وتفريغ المعاني وانزلاق الجامعة التي يفترض أن تكون مركزاً للعقلانية في مواجهة السقوط في محو الاشكال الذي ينتج عن الاستبداد والارتهان. هذا السقوط الذي تسارع في سياق انتهاك الحدود بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية تحت عنوان الديمقراطية التوافقية التي تشوّه الميثاق والدستور، والتي امتدت إلى الروابط والتهمتها .
التحاق أساتذة الجامعة الوطنية بالقوى الطائفية لم ينتج ايديولوجياً عن سلوكهم الديني، بمن فيهم القلة المنتمين إلى أحزاب دينية، بل عن تحويل هذه الأحزاب الجامعة الوطنية إلى حقل توزيع مقابل الإذعان لغلبة الجامعات الأجنبية عليها وابقائها خارج دائرة البحث المنتج الذي يلبي عملياً حاجات الإدارات والمشاريع الحكومية الفعلية ورهنها بذلك للصندوق الدولي الذي ينحو إلى تقليصها بما عرضها بصورة مفارقة إلى مصيبتين متعارضتين ظاهراً تقليص أعداد طلابها وملاك أساتذتها وإعاقة تفرغهم وزيادة أعداد متعاقديها وتخليعها .
هذه الدينامية التوزيعية السلبية هي التي أنتجت “الاستاذ الطائفي” وذلك بامساكها بآلية التوظيف وتحويلها لصيغة “الأساتذة الجامعي الذي ينتمي إلى حزب” التي كانت سائدة من قبل في الجامعة إلى صيغة “الأستاذ الذي لا يدخل إلى الجامعة الا من خلال انتمائه الى حزب”، منتظراً من المعادلة الحزبية تفريغه ثم إدخاله إلى الملاك. وهذا ما يفسر لماذا بعد أن حوّلت الجامعة إلى حقل توزيع بدت القوى السياسية الناهبة التي تهمشها بارتهانها لمنطق الصندوق الدولي هي نفسها التي تحاول ان تخرق هذا المنطق بالدفاع عن مصالح الأساتذة وحمايتهم لإعادة إنتاج نفوذها. هذا هو سحر الرابطة الجامعية السلطوية الطائفية واعجوبة “الاستاذ المتنوّر الطائفي!”.
غير أن هذه الدينامية التوزيعية التي قام عليها اعجوبة الرابطة السلطوية انتهت اليوم بعد المنهبة الكبرى وإعلان القوى الحكومية إفلاسها ولجوئها إلى وصاية صندوق النقد الدولي .
ومن هنا ف”طائفية” الأساتذة ومحاولة استعادتها لصيغة المندوب الحزبي المتشاطر على حزبه السلطوي لم تعد إلا هروباً إلى الامام دون أي فعالية الا الاستسلام إلى هوة فقدان الشكل واضمحلال الجامعة وكينونة الاستاذ الجامعي الوظيفية المادية والمعنوية .
وبالمقابل لا يبدو الفرز الذي احدثته المجموعة المستقلة في هذه الانتخابات ذا فعالية حقيقية. فما معنى أن يتم فرز الأساتذة في الرابطة على معيار الذهنية الطائفية الايديولوجي. إنه، كما حاولنا أن نبيّن، لا يعني شيئا !
ويبقى السؤال الفعلي هو الذي طرحته هيئة المندوبين في ذلك السبت المميز وهو هل ستستطيع رابطة الأساتذة في الجامعة الوطنية أن تتحول من جماعة ولائية إلى جماعة مهنية صاعدة بعد أن أصبح الولاء غير فعال في مواجهة موازنات الارتهان لصندوق النقد الدولي؟
*استاذ متقاعد في الجامعة اللبنانية