الجمعة , يوليو 18 2025

تداعيات الذكاء الاصطناعي والانظمة الرقمية  في دراسة التاريخ

 

بوابة التربية- كتبت د. ماهرة مروة:

مع دخول الذكاء الاصطناعي إلى مجالات متعددة من المعرفة، وجد علم التاريخ نفسه في مواجهة تحوّل عميق: أدوات تحليل جديدة، مصادر ضخمة، وسرعة فائقة في المعالجة. لكن هذه الثورة التقنية لم تمر دون أسئلة حساسة حول دقة التاريخ، وأخلاقيات سرده، والسيادة على ذاكرة الأمم. سنحلّل كيف أثّر الذكاء الاصطناعي على مجال دراسة التاريخ، ليس فقط كمساعد تقني، بل كمحرّك يعيد تشكيل طريقة التفكير التاريخي، ويطرح إشكالات معرفية وأخلاقية جديدة.سنعالج القضايا الاتية:

أولًا- تحوّل دور المؤرخ :  المؤرخ تحول من باحث تقليدي في الوثائق إلى محلل بيانات تاريخية معقّدة، والمؤرخ اليوم مطالب بفهم أدوات الذكاء الاصطناعي، وتوجيهها لاستخدامات دقيقة. لا بد من الاشارة الى ظهور تخصّصات جديدة مثل “الأنسنة الرقمية” و”المؤرخ البرمجي” فالذكاء الاصطناعي يختصر الزمن، لكنه لا يُغني عن الفهم النقدي.

ثانيًا- الأثر المعرفي والمنهجي: ان الذكاء الاصطناعي يغيّر طبيعة السؤال التاريخي: من “ماذا حدث؟” إلى “ما الأنماط التي يمكن استنتاجها؟”وسيكون الميل نحو التحليل الكمي على حساب السرد التفسيري اما لجهة الخوارزميات فانها تعلم الآلة كما  قد تكشف ترابطات جديدة، لكنها تفتقر للفهم السياقي العميق. ومن الضروري يجب  إعادة النظر في مفاهيم مثل “السببية”، “لتحليل الطبقي”، و”التحول التاريخي”.

ثالثاً- الذكاء الاصطناعي وا شكالية الدقة والمصداقية:

الذكاء الاصطناعي قد يُنتج سرديات زائفة أو غير دقيقة إذا استند إلى بيانات ناقصة أو منحازة. أمثلة على انحياز خوارزميات التحليل اللغوي في تفسير الوثائق.

والخطورة هنا التعامل مع مخرجات الذكاء الاصطناعي كـ”حقائق مطلقة”. ومن المؤكد  هنا الحاجة الضروري  إلى دور تحكيمي بشري دائم.

رابعًا- التأثير على أخلاقيات البحث التاريخي:  السؤال هنا من يملك البيانات التاريخية الرقمية؟ ومن يحق له تحليلها؟

للذكاء الاصطناعي مخاطر التجسّس الثقافي وإعادة صياغة الروايات التاريخية لخدمة سياسات حالية. وهنا لا  بد من تسليط الضوء على   المسؤولية الأخلاقية في استخدام الذكاء الاصطناعي: والسؤال هل يحق للآلة تفسير معاناة الشعوب؟. كما لا بد من ضرورة وضع مدوّنات سلوك أكاديمية لاستخدام الذكاء الاصطناعي.

خامسًا- التاريخ والذاكرة الجماعية: ان الخوارزميات تُعيد ترتيب سرديات الماضي بحسب المعايير التقنية لا الاجتماعية. ومن الممكن التلاعب بالذاكرة الجماعية عبر تكرار أو إخفاء معلومات معينة. والسؤال هنا هل الذكاء الاصطناعي يُقوّي الذاكرة التاريخية أم يفتتها؟

أمثلة من مشاريع رقمية تُعيد تمثيل أحداث كبرى (كالهولوكوست، النكبة، الثورات…) وماهو  دور التكنولوجيا في تعميم سردية واحدة على حساب التعدّد.

سادساً-الذكاء الاصطناعي  بين  الفرص والتحديات المستقبلية:

الفرص هي:   أداة تحليل هائلة تُفتح أمام الأبحاث التاريخية. وتكشف الأنماط غير المرئية تقليديًا. كما يؤدي الذكاء الاصطناعي الى تعميق البُعد التفاعلي في تدريس التاريخ. والعمل على استعادة الوثائق والمخطوطات المفقودة أو المتضررة.

التحديات:   – تغييب التأويل الإنساني.

–       ضعف القدرة على فهم السياقات الرمزية والثقافية.

–       خطر الاستسهال في استنتاجات تاريخية “جاهزة”.

–       الحاجة لإعادة تدريب المؤرخين على مهارات رقمية

العبرة من لذكاء الاصطناعي ليس بديلاً عن المؤرخ، بل أداة تتطلب وعيًا منهجيًا ونقديًا لاستخدامها. يجب ألا نُغري بالبريق التقني على حساب التعقيد الإنساني للتاريخ.  وان المستقبل التاريخي رقمي بامتياز، لكن مع التمسك بجوهر العمل الأكاديمي: النقد، التأمل، والتوثيق الصارم. كما يتطلّب العصر الرقمي تكاملًا بين الإنسان والآلة لا صراعًا بينهما.

ختاماً الذكاء الاصطناعي يُمثّل فرصة عظيمة لتوسيع أفق البحث التاريخي، لكنه يفرض على المؤرخ أن يُعيد النظر في أدواته، مناهجه، وحتى وظيفته الفكرية. في زمن تتسارع فيه التقنيات، تبقى المسؤولية التاريخية على عاتق الإنسان في توجيه هذه الأدوات نحو الحقيقة، لا نحو صناعة الوهم. فالتاريخ لا يُكتب فقط بما كان، بل بما نختار أن نتذكّره وننساه .

*مديرة دار المعلمين والمعلمات للتربية الرياضية بيروت- بئر حسن

محاضرة في تاريخ العلاقات الدولية، وتاريخ الفكر السياسي، ومدخل الى علم الفلسفة…  في الجامعة الاسلامية في لبنان الفرع الرئيسي خلدة- كلية العلوم السياسية والادارية والدبلوماسية – قسم العلاقات الدولية-وكلية الاداب والعلوم الانسانية.

عن tarbiagate

شاهد أيضاً

الإعلان عن لائحة للمعلم حقوق لإنتخابات فرع الشمال في رابطة الأساسي

  بوابة التربية: اعلن اليوم عن لائحة للمعلم حقوق لإنتخابات فرع الشمال في رابطة معلمي …