الأربعاء , مايو 21 2025

في خراب الجامعة: مقالة في فساد التَّعليم الجامعيّ

الأستاذ محمد عادل زكي -جامعة الاسكندرية

 

بوابة التربية- كتب الأستاذ محمد عادل زكي*:

إن الجامعة، في لحظتنا الرَّاهنة، لم تعد تلك المؤسَّسة الَّتي وُجدت لتكون ضمير المجتمع وروحه الْعاقلة، بل تحولت إلى جهاز بيروقراطيّ لإعادة إنتاج الجهل في صورته الرسميَّة، وتدوير التَّفاهة في هيئة شهادات، وتكريس الانصياع في هيئة انضباط أكاديميّ.

لقد ماتت الجامعة بوصفها فضاءً للحرية الفكريَّة منذ أن تم تدجينها تحت أوهام “الجودة” و”الاعتماد” و”سوق العمل”، وهي المصطلحات الَّتي تؤشر، لا على إصلاح، بل على تكريس لوظيفة واحدة: تطويع البشر.

فلم يعد التَّعليم الجامعيّ، في مضمونه ولا في شكله، سوى استمرار للجهل، ولكن في صيغة أكثر تعقيدًا. الأساتذة ــ إلا من رحم ربي ــ موظفون في دولة اللامعنى، يحفظون النُّصوص، ويمتحنون طلابهم، ربما، في ما لا يفهمونه هم أنفسهم. والمناهج؟ خالية من كل نقد، وكل جدل، وكل حياة. إنها جثة معرفية تُقدَّم في قاعات الدرس، ملفوفةً في شرشف “الحياد الأكاديمي”، وكأن الفقر والتبعية والتَّخلف ليست قضايا فكرية تستحق أن تُدرّس وتُنتقد. بل إن الكثير من هؤلاء الأساتذة لا يصححون أوراق الامتحانات بأيديهم، بل يوكلون الأمر لمعيدين أو موظفين، وكأن الطالب لا يستحق حتى لحظة مواجهة فكره أو خطئه. وحين تُختزل العلاقة الأكاديمية في رقم على ورقة، تُختزل معها كل إمكانيات الحوار والنمو والنقد. إن ما يُنتَج في الجامعة اليوم ليس معرفة، بل صمت. صمتٌ كبيرٌ يغطي على واقع قاسٍ: أن التَّعليم قد فُسد، لا فقط لأنه لا يعلّم، بل لأنه يجهّز خريجيه كي لا يسألوا، ولا يعترضوا، ولا يحلموا. لقد صارت الجامعة مصنعًا لشهادات قابلة للتَّسويق، لا للعقول القابلة للتفكير. تُمنَح الألقاب العلميَّة كما تُمنح الرتب العسكريَّة، ويُحتفَى بالتفوق لا كمحاولة معرفية، بل كمؤشر على الطَّاعة والانضباط. وحين نبحث عن الجذر، نجد أن العطب ليس إداريًا ولا لوجستيًا، بل حضاريّ. إن الجامعة العربية، في بنيتها العميقة، لم تتحرر من سلطتين: سلطة الموروث السلطانيّ، الذي يرى في الأستاذ شيخًا، وفي الطالب تابعًا، وسلطة السُّوق، الَّتي ترى في الجامعة “مشروعًا” وفي العلم “منتجًا”. بين هاتين السلطتين، تُذبح الفكرة، وتُغتال الحرية، ويُكفَّن العقل. فساد التعليم الجامعي إذًا ليس عارضًا، بل هو تعبير ضروري عن أزمة حضاريَّة شاملة.

الجامعة ليست معطوبة لأن بعض المسؤولين فاسدون، بل لأنها، في شكلها الحالي، مؤسَّسة لإنتاج كل ما هو: غير عادل، وغير عقلاني، وغير قابل للتغيير. إنها، باختصار، مؤسَّسة محافظة، حتى حين تتظاهر بالتَّجديد. ولذلك، فإن الإصلاح لا يكون بتطوير اللوائح ولا بتغيير القيادات، بل بطرح الأسئلة الجذريَّة: لأي شيء نُعلّم؟ ولمن؟ وهل يمكن للجامعة أن تصبح، يومًا، فضاءً للمعرفة الحرة في حضارة لا تعترف بالحرية إلا إذا كانت خادمة للسُّوق أو للسلطان؟ إن أي ثورة حقيقية لا تبدأ من ميادين وسط البلد، بل من مدرجات الجامعات. من هناك فقط يمكن أن يولد العقل الحر، وأن تنبعث الأسئلة الكبرى، وأن يُكسر صمت الطَّاعة الطويل. الجامعة إما أن تكون شرارة التغيير، أو أن تبقى مقبرة للأحلام.

*جامعة الاسكندرية

عن tarbiagate

شاهد أيضاً

أساتذة عكار يلبون النداء ووزيرا التربية والداخلية مسؤولان

  بوابة التربية- كتب د. مصطفى عبد القادر: لبى أساتذة عكار نداء وزارة الداخلية لاستلام …