بوابة التربية: كتبت هبه سلهب الأشقر:
“مَنْ فَتَحَ باب مدرسة أغلق باب سجنٍ”. الباب مدخلٌ مهما اختلفت أشكاله وأنواعه، أمّا المدرسة مكان الدّرس، فيمكن أن تتحوّر إلى سجنٍ إن لمْ نُحْسِن اختيار بابها، ونُتْقن فتْحه على مصراعَي الفكر والثّقافة.
واجَه لبنان أزمات متعدّدة على مرّ الزّمن، وكان مُحصّنًا أخلاقيًّا ومُزَوّدًا بشغف التّعلّم، شغف اكتسبه الأمّيّ والمتعلّم معًا لحمايته في البيئة والمجتمع.
حاضرُنا يُحاكي معاناة لم يسبق أن شهدها مجتمع اليوم، معاناة تنبع من تأزّم الصّحّة الجسديّة، النّفسيّة، والعقليّة. تأزّم أدّى إلى أزمات اقتصاديّة، سياسيّة، واجتماعيّة. ولكن، ما نطرحه اليوم، فاعليّة آليّة التّعامل مع تأثير أزمة بهذا النوع وهذا الحجم على عمليّة التّعلّم والتّعليم في بلدٍ حضاريٍّ منفتح على الشّرق والغرب، متنوّع الثّقافات، متميّز بثقافة شعبيّة تربّت على الانفتاح العالميّ.
بعد عصفٍ وكرٍّ وفرٍّ بين الإدارات ووزارة التربية والتّعليم العالي من جهة، وصرخة التّلامذة والطّلاب وأهلهم من جهة أخرى، اعتُمِد التّعلّم عن بعد في لبنان، وأُعلنت وزارة التّربية عن آليّة تطبيقه والالتزام بها على الأراضي اللّبنانيّة كافّة. هذه العمليّة بدأت متأخّرة عن ثورة ١٧ تشرين2019، الّتي، ربّما لو بدأوا بتنفيذها منذ ذاك الحين لَتَغيّرت أحوال التّعليم.
بدأت ظاهرة التّعلْم عن بعد، في محاولة من المركز التّربويّ والوزارة عبر بثّ حصصٍ مباشرة من تلفزيون لبنان لصفوف الشّهادات الرّسميّة، وتناسَت بقيّة المراحل الّتي تُعَدُّ عَصَب تلك الصّفوف ومقدّمة التّعلّم. ألم يكن من الأجدى لو استعنّا أيضًا بوسائل إعلامية أخرى، تُقدّم كلّ واحدة منها بثًّا خاصًّا في وقت منظّم ما بينها، لمرحلة تعلّميّة معيّنة وفترة زمنيّة محدّدة بحسب الحاجة؟ ولِمَ لا يُستخدم التّلفاز القيّم الموجود في المركز التّربويّ؟
بالإضافة إلى أنّه في ظلّ التّعبئة الأولى. لَمْ يُحدّد المركز التّربويّ آليّة موحّدة للتّعليم عن بعد، إنّما دعا إلى استخدام أي تقنيّة تتوفّر عند المدارس والأهل والأساتذة. خطوة جريئة لدخول العالم الرّقميّ في التّعلّم، ولكنّ المخاطرة فيها والمجازفة أدّت إلى تفاقم المشكلات وتتالي العقبات، وذلك مرجعه عدم دقّة التّعميمات وعدم احتساب العواقب والعثرات الّتي يمكن مواجهتها بأسلوب سليم ومعالجتها من صلبها.
الوقت كان حليف الدّولة، وحليف القرارات، لماذا؟ لأنّ لبنان تحديدًا حظي بفرصة للتّعامل مع الأزمات منذ الإقفال في أثناء ثورة ١٧ تشرين. المؤسّسات المسؤولة والمعنيّة لم تستغلّ هذا الظّرف وتغوص في مخاطرة رقميّة، مع العلم أنّ الإقفال كان طويلًا واعتماد خطط بديلة كان الأجدى، فحتّى ولو لم تُعتمد في وقتها، كان يجب التّحضير لمسوّدة لها وتأمين ما لم يُؤَمّن للفئات المعنيّة كافّة آنذاك، وخصوصًا في ما يتعلّق بالمعدّات والوسائل الالكترونيّة الّتي تكلّف الكثير مادّيًّا. المادّة أساس العقبات في لبناننا الآن.
يا جماعة الخير،
هل أنتم واثقون بأنّ كلّ طفل لبنانيّ حصَّل ويُحَصّل تعليمه منذ الإقفال؟ هل تأكّدتم من تأمين كلّ احتياجاتهم التّعلّميّة؟ ماذا أمّنتم لهم غير التّعاميم وبعض الفيديوهات الإرشاديّة الّتي إذا لم تمتلك العائلة وسيلة تواصل، ستَبقى معلَّقة في صفحاتكم الافتراضيّة؟
يا أهل الخير،
هل درستم بحكمة ساعات التّدريس الّتي أدرجتموها في تعاميمكم؟ هل تعاونتم مع بقيّة الوزارات لتوحيد ساعات عمل الموظّفين لتتآلف مع ساعات تدريس أطفالهم؟ أنظّمتم برامج عمل حديثة على اللّبنانيّين تتوافق مع قراراتكم في ظلّ هذا الوباء؟
يا أهل المحبّة،
هل أنتم على ثقة بأنّ كلّ أمّ أوكلّ أب أو أي فرد من أفراد العائلة المتواجد مع الطّفل قادر على مواكبة تعلّمه عن بعد؟ ما البديل؟
يا جماعة الحقّ،
هل عاينتم أحوال العوائل اللّبنانيّة الشّخصيّة؟ أتأكّدتم من توفّر أجواء صحّيّة، نفسيّة، وجسديّة مناسبة وقراراتكم؟ أتتوقّعون بأنّ كلّ طفل لبنانيّ يتمتّع بحرّيّته الموجبة، فكريّة كانت أم حياتيّة؟ هل سألتم إذا كان ينام ويدرس في غرفته الخاصّة؟ إذا كان يأكل ويشرب ويلبس ويتدفّأ؟ إذا كان يلعب ويُخطّط ويمرح ويُحبّ ويُعانق ويواجه ويُعَبّر؟
“وأمّا أنتَ فتكلّمْ بما يليقُ بالتّعليم الصّحيح.”
الكثير من الأساتذة والأهل ضحّوا بمقتنياتهم وقدراتهم وأموالهم وأحوالهم الخاصّة لمحاولة تأمين التّعلّم لأطفال لبنان. ولكن، إلى متى سيتحمّل هؤلاء هذا العبء؟ الأموال تُصرَف، الحواسيب تتَخَرَّب، الوظائف تُفقَد، والقدرات تتراجع…
أُسائِلُ المسؤولين، أُسائل المعنيّين:
خطّة “ب” تطوف في فضاء افتراضيّ، تُحاكي نفسها، تُؤَنّب بنيتها، بيئتُها غير صالحة، برامجها غير جاهزة، بئس عالمها… خطّة “ب” باهتة، باردة، بليدة، بُرْعُمٌ قطعتم أوصاله بوباء المحاصصة والمحسوبيّات والكراهيّة، وبؤس بيلاطسيّ…
عَتَبي وَجعي، عَتبي على من سمح بتفاقم هذا الوباء من مسؤولين، عَتَبي على أهل العلم الّذين لمْ يَصطفّوا ويتراصفوا من أوّل المطاف بنبْض واحد وروح واحدة ليوقفوا هذا الهراء.
أعلم يا وَجعي أنّهم رهينة مخاوف الحاضر، أنّهم ضحيّة مصائب المستقبل. نعم، وألف نعم، إلّا أنّ عقلي يُؤَنّبني، عقلي يُؤَنّبهم: “عَلِقْتُم في عَلْقَم عِلمكم، عَلَّكم تعقلون ما تَعَلّمتُم.”
أيّها الأساتذة، ما زلتم تسهرون اللّيالي لإتمام واجبكم، أبْعدتُم أطفالكم عنكم لإنهاء حصصكم، طوّرتم آداءكم ودخلتم عالمًا رقميًّا لم يكن من عالمكم… توقّف الإرسال عندكم اعتبرتموها مشكلتكم، غالبيّتكم تحمّلتم عبء تكاليف الإنترنت والحاسوب والبرامج الّتي كان يجب على الإدارات تأمينها، تقاضيتم أجورًا ذليلة، ابتعدتم عن عالمكم الواقعيّ العائليّ المجتمعيّ…
جهودكم محفوظة وتُرفع لكم القبّعة، إلّا أنّ العتب يُسائلكم: أيّ عِلْمٍ تبنون، إذا كنتم قادة مهمّشين، مُرَبّين لا تملكون القرار؟
يُحاول عقلي استبعاد هذا السّؤال: أيّ فئة تدرّسون؟ أيّ طبقة؟ هل هذا ما تعلّمتموه؟ (حقّكم واضح ومحفوظ! لا تسمحوا للخوف بأن يُخدّر كرامتكم.)
انطلاقًا من معاناتكم، يُعَجّبني عندما أسمع أنّكم خضعتم لأكبر امتحان في تقييم آدائكم! وتبيّن أنّكم كنتم تفتقرون للتّكنولوجيا الرّقميّة في تعليمكم…!
أيّها السّادة، يا مسؤولي الذّلّ، أين كنتم من عشر سنين؟ ماذا قدّمتم لهؤلاء الأساتذة من دعم معرفيّ؟ أين تبلورت أنشطتكم ودوراتكم ومراقبتكم وتفتيشكم؟ يبدو أنّ وباء المحسوبيّات عَزَلَكُم عنّا.
الأستاذ الحقّ، سيعتاد، سينجح، سيتأقلم، سيصمد، سينجو، وسيرتقي. أخلاقه وقيمه، ومزاولة التّعليم لفترات طوال كفيلة بوعيه وإدراكه وتعلّقه برسالة أصبح ذكرها معتوهًا في غالبيّة مجتمعنا، وهي تعليم الطّفل.
سأنتقل إلى الطّفل، التّلميذ الطّالب، الّذي يُعاني الأمرّيْن. إنّه المخلوق الوحيد الّذي يعيش في ازدواجيّة واقعيّة ستخلق منه جيلًا ضبابيًّا. طفل اليوم مُعْجب بالرّقميّة يَكره سيطرتها، متأقلم مع الكوفيد يكره الوقت، متطوّر في المفاهيم يتأخّر يومًا بعد يوم في تحصيله الدّراسيّ، يُحبّ العائلة والبقاء إلى جانبها ويُعاني من عدم استقرارها، تحسَّنَت صحّته الجسديّة وتدنّت النّفسيّة، يُحاول الانفتاح على العالم الرّقميّ المثقّف ويصطدم بمجتمع متنمّر هزيل، ينصاع لكلام أهله ويبتعد عن خنقه بعادات وتقاليد تُشعره بالدّونيّة… طفل اليوم يحتاج إلى متابعة دوريّة هو وأهله لاستيعاب هذه المرحلة وتخطّيها بأقلّ خسائر ممكنة. إنّه ضحيّة مجتمع اليوم، هو المظلوم. لقد وُلِد مع التّكنولوجيا وها هي الآن تسبقه، تتحكّم بزمنه، وتسيطر عليه.
كان همّ أجدادنا أن يربّونا على المبادئ السّليمة لنتمكّن من خوض غمار الحياة. كان الطّفل يعيش على النّعمة والبركة، كان مغمورًا بحنان وعطف وشوق ولمّة العائلة. على الرّغم من ارتفاع نسبة الأمّيّة والجهل سابقًا، إلّا أنّ أطفال الأمس صاروا كتّابًا، مبدعين، أطبّاء، مهندسين… بينما أطفال اليوم وُلدوا مع الآلة الّتي سيّرت عقولهم وما زالت. العقل الطّفوليّ والبشريّ بشكل عامّ، لم يعد قادرًا على استيعاب هذا الكمّ الهائل من المعلومات المتضاربة المتجاذبة. أبناؤنا بحاجة إلينا، نحن من عليه أن يُبَدّل في مفاهيمه، نحن من عليه أن يتعايش وبيئتهم الفكريّة الّتي يربطها غالبيّة المجتمع برذالته. الأهل بنفسهم لم يتمكّنوا من معصرنة أبنائهم. هذه العلّة بحدّ ذاتها، فلو كانوا قادرين على اجتذاب التّطوّر وعقلنته، لما وصل أبناؤهم إلى حوائط مسدودة تعيق الأحلام الطّفوليّة والعائليّة معًا.
ختامًا، الكوفيد هو المتحكّم الآمر النّاهي بقراراتكم. الكوفيد الحقيقيّ يكمن في عدم قدرتكم على احتضان التّعلّم في لبنان الحضاريّ.
تذكّروا ما قيل: “أُعَلّمُكَ وأُرشِدُكَ الطّريقَ الّتي تَسْلُكُها. أنصَحُكَ. عَيْني عليكَ”.