بوابة التربية- كتبت هنادي بشير السحار*
مما لاشك فيه إن طبيعة الإنسان تميل إلى الأمن والاستقرار , والسعي الدؤوب إلى تحقيق مستوى أفضل وأكثر تقدماً وإخاءً في الحياة , إلا أن طبيعة الكون والبشر لا يتمازجان في بعض الأحيان, لذلك يضطر الإنسان إلى التعايش مع الطبيعة الكونية و البشرية المتقلبة , فتارة تولدان الاستقرار الذي يوجد الحياة المتمثلة في التطور المستمر, والنشوء المتجدد والارتقاء المتواصل , وتارة تولدان التوتر والصراع وزعزعة الأمن والاستقرار, كالكوارث الطبيعية, والكوارث البشرية, فتؤدي بدورها إلى سيطرة أجواء الفوضى, وفقدان أهم مقومات الحياة كالمأكل والمأوى , والحرمان من أبسط الحقوق وأهمها الصحة والتعليم ,فتبدأ الحياة بالانحدار, ولعل مفتاح المواجهة لهذه التحديات والمتغيرات المستجدة للفرد والمجتمع في خضم العنف, وعدم الاستقرار هو التعليم , فهو الملاذ للحياة الطبيعية والأمل في المستقبل والقدرة الخلاقة على التقدم .
فالتعليم والتعلم كفاءة وقدرة تمثل المصدر الأساسي للمعرفة ,وتدفع الإنسان للارتقاء الاجتماعي, ومن خلال تنمية القدرة الذهنية , ورفع المستوى السلوكي والأخلاقي, وتحسين مستوى المهارات والأداء والإدراك, وقيمة العلم والعلماء في تقدم المجتمع , والانتماء للوطن والولاء له (إبراهيم بدران,ص17), ومن بين ما يشهده العالم من أزمات وحوادث طارئة والتي تؤدي بدورها إلى وجود عدد متزايد من المشردين واللاجئين , الذين يتركون منازلهم بحثاً عن أماكن آمنة , لمنحهم المأوى المؤقت , ومثل هذه الأوضاع الطارئة تحول دون حصول عدد كبير من الأطفال على حقهم في التعليم , ولهذا فقد أخذ التعليم يكتسب أهمية ضرورية ملحة كبند أساسي من بنود الاستجابة للحالات الطارئة من قبل المجتمعات المدنية والمنظمات الإنسانية المختلفة (الأونروا ,ص 23) .
وقد فرضت قضية التعليم في حالات الطوارئ نفسها كحق إنساني أساسي , وأثارت اهتمام المنظمات الإنسانية المختلفة ,التي عملت على إنشاء شبكة مشتركة لوكالات التعليم في حالات الطوارئ (INEE) , وهي شبكة عالمية مفتوحة , تضم أعضاء يعملون سوياً ضمن إطار عمل إنساني لضمان حق الحصول على تعليم جيد , وآمن للجميع في حالات الطوارئ ومرحلة التعافي بعد الأزمات ، ويهدف التعليم في حالات الطوارئ إلى تأمين فرص تعليمية لكل الأعمار ويؤمن التعلم الجيد , والحماية الجسدية , والنفس اجتماعية , والمعرفة بدءاً من حالة الطوارئ وصولاً لحالة التعافي (اليونيسيف, ص 2) .
وفيما يلي سأعرض لكم بعض التجارب العالمية الناجحة للتعليم في ظل حالات الطوارئ:
- التجربة اليابانية
خاضت اليابان حرباً عنيفة مع الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية ، وذلك بضرب أرضهم بقنبلتين ذريتيين على مدينتي هيروشيمي ونجازاكي مما دعا اليابان للاعتراف بالهزيمة والاستسلام.
عمدت اليابان بعد الحرب العالمية الثانية إلى إحداث تغييرات كبرى على مناهجها التعليمية وأنظمتها التربوية, بقصد تجاوز الأحداث والهزيمة التي منيت بها , ومن أبرز التغييرات والإصلاحات , إلغاء بعض المواد والمناهج غير الأساسية, وإضافة ساعات دراسية جديدة لليوم الدراسي, وإطالة الأسبوع الدراسي ليصبح (5) أيام ونصف اليوم, واقتصار الإجازة السنوية على شهر للمعلمين والطلبة, وتبني سياسة الحزم داخل المدارس , وخاصة فيما يتعلق بالواجبات المدرسية ,والابتعاد عن أساليب الحفظ والجمود, والتبعية الفكرية للنمط الغربي الأوروبي الأمريكي وتسخير أجهزة الإعلام لخدمة القضايا التربوية .
- تجربة غوجارات (الهند)
في أعقاب الزلزال المدمر الذي ضرب المنطقة في (2001) بذلت جهود حثيثة لإعادة الأطفال إلى المدارس بأقصى سرعة ممكنة ، وذلك لاستعادة الوضع السابق للتعليم كما كان عليه قبل الزلزال ، واستعادة نوع من حياتهم الطبيعية ، وقد جندت لهذه الجهود جهات متعددة ، بما فيها المنظمات غير الحكومية التي حشدت المجتمعات المحلية لإنشاء مدارس في الخيام , وقد ساعدت استراتيجية الفضاءات الصديقة للطفل على توفير ملاذ للأطفال ، وأكدت أنهم قادرون على استئناف نشاطاتهم الطبيعية.
- تجربة فلسطين
إن الناظر للعالم اليوم يجد أن المتغيرات السياسية بشكل عام , والمجتمع الفلسطيني بشكل خاص, وقد عاش الشعب الفلسطيني مراحل عصيبة من تاريخ نضاله الطويل ضد الاحتلال الإسرائيلي, من أجل استرجاع حقوقه، ونيل حريته, واستقلاله ، وتركت كل مرحلة من مراحل حياته بصمات واضحة على حياة هذا الشعب الصابر المرابط، فعانى وما زال يعاني من قسوة الاحتلال الصهيوني من ظلم واضطهاد وإرهاب (فريد عبد الرحمن النيرب , وحازم زكي عيسى ،ص 7) فالحياة في ظل الاحتلال الإسرائيلي وما تعرض له الإنسان الفلسطيني أفقده الشعور بالأمن والاستقرار فولدت لديه الشعور بالاستهداف المستمر ،وشعوره بالملاحقة والمتابعة وعدم الهدوء (محمد أبو نجيلة، ص 140)، ومن أكثر الظروف الطارئة التي مر بها الشعب الفلسطيني في محافظات غزة ، هي تعرضه لأكثر من خمسة حروب متتالية مدمرة ، فالحرب الأخيرة المستمرة حتى يومنا الحالي والتي بدأت بالاشتعال فمنذ السابع من أكتوبر للعام 2023 ومازالت مستمرة حتى يومنا الحالي ,حيث أنها الحرب الأكثر دموية وتدميراً وفتكاً بالشعب الفلسطيني , فقد أثرت الحرب الأخيرة على شتي مجالات الحياة فاستشهد مئات الآلاف من المدنيين الأبرياء ودمرت معظم محافظات قطاع غزة بشكل كامل بما فيها من مدارس ومستشفيات وهجر السكان وأجبروا على النزوح من أماكن عيشهم العديد من المرات, إضافةً لحرب التجويع التي مازالت تفتك بالفلسطينين في ظل منع المساعدات الإنسانية من الدخول للقطاع واستمرار الحصار وإغلاق المعابر ومنع الفلسطينين من السفر وهذا كله ترك آثار خطيرة على جميع القطاعات بشكل عام وعلى العملية التعليمية بشكل خاص.
وبالرغم من الظروف القاهرة إلا أن التجربة الفلسطينية غنية في التعامل مع الظروف الطارئة مثل :إعداد برامج لتعليم طلبة المدارس والجامعات عبر التعليم الالكتروني, وتدريب المتعلمين والطلبة على الإسعافات الأولية والسلامة العامة والتعامل مع الأزمات, وعمليات الإخلاء ومكافحة الحرائق, والتعامل مع الأجسام المشبوهة, والتعليم الشعبي وفي الخيام بسبب عدم قدرة الطلاب والمعلمين الوصول لمدارسهم بسبب الدمار الذي سببه الاحتلال الإسرائيلي لكافة البنى التحتية في قطع غزة , وهذا ما هو إلا نوع من الإصرار على إنقاذ العملية التعليمية والتخفيف من آثار الوضع السائد والعدوان الإسرائيلي.
*باحثة