أخبار عاجلة

تعليم التاريخ في لبنان غربةُ الماضي والمستقبل

بوابة التربية- كتب د. *جمال عرفات

توقّف!!   هنا توقّف الزمن، وبات القادم مجهولًا.

31 كانون الأوّل 1946، يوم تمّ جلاء آخر جنديّ أجنبيّ عن أراضي لبنان وسوريا – هكذا نُقِلت إلينا المعلومة في كتاب التاريخ الوطنيّ – ولم تَعُد أيّ “معلومة جديدة”، ممنهجة ومكتوبة، تصِل إلينا – من أصحاب الأمر – نحن الطلّاب والأساتذة، وكأنّ الزمن والتاريخ و”المجد” توقّف عند نهاية العام 1946، أي إلى أكثر من 75 عامًا.

الواقع المُمنهج لذاكرتنا، جعلنا نُمجّد أشخاصًا، ونُقيم نوعًا من التوازن المذهبيّ والدينيّ في كل “الأحداث والسِيَر والمراحل”، وكأنّه، وهو فعلًا، يبني أجيالًا عليها أن تعيش بذاكرة مركّبة وِفق معايير 6 و 6 مكرّر.

غربةٌ ضحاياها شعب بأكمله، فَرِحَ “قياديّوه” بانتصاراتٍ نسجوا أحداثها وأبطالها ووضعوا تصوّراتهم في منهاجٍ ابتكروه في سهراتهم الاجتماعيّة، أو في إحدى صالوناتهم المُخمليّة، وتركوا هامشًا “لِما يُسمّى بالمؤرّخين” في وضع العناوين التفصيليّة مشروطة بالموافقة المُسبقة من “المخمليّين المُنتّصرين”.

أيّ تاريخ نُدرّسه لأولادنا لنجعل منهم مواطنين قادرين على معرفة تاريخ وطنهم في حُلوهِ ومُرّه، وفي كل تعقيداته، كي يُصبحوا قادرين على المشاركة في “صناعة المستقبل”.

غربةُ الماضي تجعل الصورة مشوّهة وغير واضحة، لذا يعترينا الهذيان حينما نقرأ تاريخ المناطق اللبنانيّة في حقبات ومراحل عدّة..

نقرأ مجد السلطنة العثمانيّة ثم نَهوي بها إلى القاع..  نستذكر رافضين مجيئ الصليبيّين إلى منطقتنا، وسرعان ما نجعل رحليهم مأساة أصابتنا..

نُمجِّد هذا الأمير وذاك الشيخ ونبرّر تعامله مع الخارج، ونَصِفُ مخاصميه ومنافسيه الداخليّين على إقطاعته بالخيانة..

نرفع من قدر هذا الفريق أو العِرق ونُسيئ إلى الفريق الآخر، دون معرفة الأسباب..

نقاتل الولاة أو الحكّام أو السلاطين، ونقف عند أبوابهم للسماح لنا بالدخول لأخذ بركاتهم وكسب رضاهم علينا..  نرفض المحتل ونقاتله، ونتوسّل إليه ليزيد من حجم قوّتنا ونفوذنا وقدراتنا وإمكاناتنا..

نُشاطر دولة انتصارها وهي محتلّة لأراضينا أو أقلّه تضع يدها على مواردنا وتُسيّرُنا وفق سياستها..   نعادي شعبًا ما لأنّ خصومه سادتنا، ونُناصر شخصًا ما لأنّه يرسم تاريخنا…   غربةٌ في ماضينا..

الثورات في العالم عبر التاريخ قادها الشعب الباحث عن الكيان والوطن والهويّة والأرض والسيادة والحرّيّة والاستقلال ورافضًا السيطرة والقهر والذلّ والاستعمار أيًّا كان ومن أيٍّ كان، أمّا في لبنان فأرادها الشعب حرّة تُوصله للحرّيّة ، لكنّ بعضها أو غالبيّتها تمثّلت في أشخاص من سلالات إقطاعيّة مخضرمة، مملوكيّة وعثمانيّة وعربيّة وفرنسيّة وإنكليزيّة، إلخ..، رسمت ملامح الثورة كما رأتها عيونها وقرأتها في كتاب الآخرين..

غربةٌ أن لا تعرف من تاريخ وطنك سوى أفراد أو بيوتات يتكرّرون في كل حدث، وكأنّك في “وطن” لم يُنجب النُخب من نقابات وجمعيّات ونساء وأساتذة وأطبّاء وعمّال ومهندّسين وفلّاحين وفقهاء وقضاة وحقوقيّين والبسطاء البسطاء، ولم تُنجب روّاد الحداثة من فنّانين وأدباء وشعراء وموسيقيّين، واللائحة تطول..

غربةٌ أن يسألك طلابك سؤالًا واحدًا وبسيطًا، ليس بمقدورك أن تُجيب عليه – وأنت تملك الإجابة عنه أو عن بعض منه – فتكون الإجابة إذا ما حصلت مخالفة لوثيقة الوِفاق الوطنيّ أو لصغية العيش المشترك.

يسألك الطلاب، الزملاء، الناس، الذين يثقون بك، أسئلة لا تنتهي، أو ربما لن تنتهي، ولن تنتهي: “لماذا نال لبنان استقلاله في العام 1943 وليس قبله، رغم اعتراف فرنسا باستقلال لبنان في أكثر من مرّة؟”؛ “ما أسباب ثورة 1958 في نهاية عهد الرئيس كميل شمعون؟”؛ “لماذا لقّب لبنان أو بيروت بسويسرا الشرق؟”؛ “هل فعلًا نال اللبنانيّون استقلالهم سنة 1943؟”؛ “ما طبيعة الصِراع بين الرئيسين بشارة الخوري ورياض الصلح؟”؛ “لماذا وردت عبارة لبنان ذو وجه عربيّ في ميثاق 1943 وما بعده، وعربيّ الهويّة والانتماء في وثيقة الوفاق الوطنيّ؟”؛ “ما مدى صحّة أنّ اتفاق القاهرة كان سببًا من أسباب الحرب في لبنان؟”؛ “لماذا اندلعت الحرب سنة 1975؟”؛ “هل فعلًا اندلعت الحرب في 13 نيسان 1975؟”؛ “هل انتهت الحرب في لبنان سنة 1990؟”؛ “هل كانت الحرب في لبنان بين المسلمين والمسيحيّين؟”؛ “لماذا تمّ اغتيال أو محاولات اغتيال العديد من الشخصيّات اللبنانيّة وعلى كل المستويات؟”؛ “ما هو مصير المفقودين في الحرب؟”؛ “هل انتهت الحرب في لبنان؟”…

فأيّ إجابة ستكون؟

غربةٌ أن تدرِّس التاريخ لطلاب يحملون في حقائبهم وخلف عيونهم تاريخًا خاصًّا بهم أو “بهويّتهم” ملأوا به جوارير ذاكرتهم ومخيّلتهم واستلهموه وتعلّموه من أرصفة الحيّ ومن جلسات السمر المذهبيّ..

غربةٌ أن تدرِّس تاريخًا لشعب ثائر وقادر وفاعل ومؤثِّر في كل المتغيّرات والتحوّلات والتبدّلات، لكنّه دون وطنٍ يحلم فيه ويُضحّي في سبيله، فيصبح الماضي لديه جامدًا والمستقبل هائمًا في دهاليز اللامستقبل..

توقّف الزمن في تاريخنا، فلا صِراعًا داخليًّا ممزوجًا بتوازنات محيطة قريبة وبعيدة، ولا بوارج وسفن عسكريّة في مياهنا الإقليميّة وعلى شواطئنا سنة 1958، ولا جنودًا من جنسيّة معيّنة أو من جنسيات متعدّدة وطأت أرضنا في فترات مختلفة، ولا اجتياحًا إسرائيليًّا مرّ ذكره مرورًا خجولًا في كتاب التربيّة الوطنيّة..

غربةٌ أن لا تتحدّث عن تظاهرات العمّال والطلاب والمعلّمين، ولا عن مزارعي التبغ وعمّال غندور وصيّادي الأسماك وإفلاس بنك إنترا…

شعبٌ أراده “المستمرّون في الحكم” أن لا يكون فيه دور للتحرّكات الحزبيّة والنقابيّة، ولا أصواتًا للطلاب والنساء، ولا أنين فقراء الضواحي المساكين، ولا حكايات عمال المطابع والصحافة، ولا رصاصات طرابلس مع القِوى الأمنيّة، ولا معرفة لدور مستشار رئيس الجمهوريّة في ستينيّات القرن الماضي مع العشائر، ولا عن ازدياد أعداد المهرّبين وتجار الممنوعات، ولا عن 13 نيسان 1975 وبوسطة عين الرّمانة، ولا حرب السنتين، ولا عن قوّات الردع العربيّة، ولا عن مقاومة الشعب اللبنانيّ للاحتلال الصهيونيّ، ولا عن حروب الأزقّة والزواريب والبيئات والمناطق والجماعات، ولا عن حرب العلم، وطريق القدس الذي يمرّ في جونية، ولا عن حروب الإلغاء والتحرير والاتفاق الثلاثيّ واتفاق الطائف واجتماعات لوزان وجنيف، ولا عن التعامل مع العدو الصهيونيّ، ولا عن تحرير الجنوب والبقاع الغربيّ، ولا عن أحقيّة لبنان بمزارع شبعا وتلال كفرشوبا والاعترافين السوري والدولي بها خطّيًا، ولا عن قوانين الانتخابات المسمّاة باسماء أصحابها، ولا عن اختفاء السيد موسى الصدر، ولا عن محاولات إلغاء الآخر إن خالف رأي الزعمات هنا أو هناك، ولا عن “سخاء” المساعدات و”براءة” التدخلات العربيّة والتركيّة والإيرانيّة والأميركيّة والأوروبيّة والآسيويّة، ولا عن اغتيال الرئيس رفيق الحريري 2005، ولا عن موجات اغتيالات المفكّرين والصحافيّن والمفتيّين والرؤساء، ولا عن عدوان تموز 2006، ولا عن أحداث أيّار 2008 واتفاق الدوحة، ولا عن انتخابات 2005 و2009 و2018، ولا عن مخالفة الدستور، ولا عن الصناديق والالتزامات والمحاكم والمحاكمات، ولا عن الحرب في سوريا وتداعياتها على لبنان، ولا عن معركة الجرود، ولا عن انتفاضة 17 تشرين الأوّل 2019…

غربةٌ في المستقبل أن لا تدرّس تاريخ آلام وأوجاع وجوع اللبنانيّين المقهورين والصابرين والذين فقدوا أحبّة لهم هجرة وتهجيرًا وجوعًا ومرضًا وألمًا بفقدانهم أدنى مقوّمات الحياة من دون محاكمة من سبّب لهم ذلك…

كيف تدرّس تاريخًا لوطنٍ موجوع من دون ذكر أسماء الفاسدين وليس الفساد، والسارقين وليس السرقة، والمتعاميلين وليس العمالة، والناهبين لأحلام الشباب ومسبّبي التنافس على حاويات النفايات وأمام مكاتب توزيع علب المساعدات الغذائيّة وسفارات بعض الدول..

لنضع تاريخًا لوطن يستحقّه شعب ضحّى بكل شيئ، لنضع الكتب أمامنا الصحف والمجلّات والصُوَر والأفلام والوثائق وحكايات الناس، ونُشرّحها بانفتاح فكريّ وعلميّ بعيدًا عن أساطيرنا ورواياتنا وسرديّاتنا الأحادية الدامية..

تعالوا لنستمع إلى أصوات ضحايا الحروب والمآسي، ونخرج من خيمة الجماعة إلى ساحات الجموع، ومن الكهوف المُغلقة السوداء إلى الحدائق والمساحات الرحبة..

لنصنع تاريخًا يليق بأولادنا، بوطنٍ حرٍّ وشعبٍ سعيد، لنصنع تاريخًا شفّافًا بسرديّات متعدّدة ومعلّمين مؤهّلين ومدرّبين وناشطين في حقل التربية والتعليم، دون أن يكون لأولي الأمر أيّ دور تقليديّ في تحديد الأسماء وتوزيعها طوائفيًّا ومذهبيًّا وسياسيًّا وانتخابيًّا، ويُترك الأمر لأصحابه، علّنا نصنع أو نكون شركاء قي صناعة منهج يُراعي وعينا وقدرتنا على التعامل مع الماضي، عنده يكون الوطن وطنًا وليس أوطان، والشعب ، كل الشعب، مواطنون في دولة تحترمهم..

الغربةُ في الوطن بدايتها غربتنا أو تغريبنا عن معرفة كل أو بعض ماضينا، ونهايتها ستكون وبلا حَذَر غربتنا عن مستقبلنا، فلا مستقبل لنا من دون أن تكون طاولات العِلم والباحثين والمؤرّخين مملوءة بكل الماضي أيًّا كان هذا الماضي، لنتعامل معه من خلال مفاهيم تاريخيّة متجانسة مع مفاهيم ومستويات التفكير المختلفة..

لا بدّ من إجراء عمليّات جراحيّة وترميميّة كثيرة، فولادة دولة لبنان كانت من دون تهيئة الحمل الصحيح، فكانت الولادة متعثّرة والمولود مشوّهًا.

البُعد عن الغربة يكون الالتصاق بمعرفة خفايا الماضي بصُوره وأحداثه وناسه وكل ما فيه، عندها ووحدها ترسم ما تحلم به في مستقبلك ومستقبل الوطن، قبل أن يُعزّينا الآخرون بموت الوطن ودفن ماضيه، لذا “إجا الوقت لنحكي تاريخ”.

* باحث وأستاذ مادة التاريخ في التعليم الثانوي والجامعي – لبنان

عضو اللجنة الإداريّة في الهيّئة اللبنانيّة للتاريخ

عن tarbiagate

شاهد أيضاً

ثلاث طاقات متخصصة من الجامعة اللبنانية عمداء في جامعات بريطانية

بوابة التربية: عين رئيس جامعة التايمز البريطانية المفتوحة في لندن، السيناتور البروفسور مخلص الجدة، Thames …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *