
في ظلّ المتغيرات المتسارعة التي يشهدها ميدان التعليم المعاصر، أضحت استراتيجيات التدريس التقليدية وحدها غير كافية لإشباع شغف المتعلمين وإثارة دافعيتهم. من هنا، تبرز استراتيجية التعلُّم المُمتِع كنهج تربوي متميّز يجمع بين عناصر التشويق والإبداع والمتعة من جهة، وعمق العملية التعليمية من جهة أخرى. تسعى هذه الاستراتيجية إلى تحفيز المتعلم على المشاركة النشطة من خلال توظيف وسائل تعليمية إبداعية وألعاب تربوية وتفاعلية، مستندة إلى مبادئ علم النفس التربوي ونظريات التعلُّم الحديثة بما يجعل من الحصة التعليمية تجربة فريدة ومُلهِمة.
مفهوم استراتيجية التعلُّم المُمتِع:
التعلُّم المُمتِع هو أسلوب تربوي يجمع بين التعليم والمتعة، حيث تُستخدم أنشطة شيّقة وأساليب جذابة كالألعاب التعليمية، القصص، المحاكاة، والتحديات الصفّية لإيصال المحتوى العلمي وترسيخ المفاهيم لدى المتعلمين. يشير هذا المفهوم إلى أن العملية التعليمية لا يجب أن تكون جافة أو مملّة، بل على العكس، يمكن أن تتحول إلى رحلة استكشافية تعزز من شغف المتعلمين بالمادة وتزيد من دافعيّتهم الذاتية. وقد أشار القرآن الكريم إلى أهمية استخدام أساليب متنوّعة ومشوقة، كما في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ (الكهف: 54)، ما يُعزز مبدأ التنوع في الأساليب واستخدام القصص، كما جاء في قوله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ (يوسف: 3). وتظهر أهمية التحفيز والمكافأة من خلال قوله تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ﴾ (البقرة: 25).
ركائز استراتيجية التعلُّم المُمتِع :
يمكن استخلاص ركائز استراتيجية التعلُّم المُمتِع من عناصر تربوية وقرآنية، أبرزها:
- التنوع في الأساليب والأنشطة.
- التعلُّم من خلال القصة والمواقف الحياتية.
- التحفيز والتعزيز الإيجابي.
- التأمل والتفكير الناقد.
- المشاركة النشطة والتعاون بين المتعلمين.
أهمية تطبيق التعلُّم المُمتِع وتوظيفه تربويًا :
يرتبط تطبيق التعلُّم المُمتِع بتحقيق العديد من الفوائد التربوية، من أهمها:
- تعزيز الدافعية الداخلية لدى المتعلمين وتشجيعهم على الاستكشاف والتعلُّم المستمر.
- رفع مستوى التركيز والانتباه خاصة أثناء شرح المفاهيم التي تُعد مملة بطبيعتها.
- تنمية المهارات الحياتية والقرن الحادي والعشرين، كالتواصل، التعاون، التفكير الناقد، وحل المشكلات.
- ترسيخ المفاهيم في الذاكرة طويلة المدى من خلال الممارسة العملية والتفاعل النشط.
- تطوير المهارات الاجتماعية والعاطفية من خلال الألعاب الجماعية والأنشطة التفاعلية، ما يدعم تطبيق مبادئ التعلُّم الاجتماعي العاطفي (SEL).
دور المعلّم في تطبيق استراتيجية التعلُّم المُمتِع :
لا يمكن تحقيق أهداف استراتيجية التعلُّم المُمتِع بدون معلّم مبدع ومبادر. من هنا، يجب على المعلم:
أن يُنوّع طرائق التدريس وألا يقتصر على أسلوب الإلقاء التقليدي.
أن يُوظّف عناصر التشويق والمفاجأة من خلال الأنشطة التفاعلية، الألعاب، والوسائط البصرية.
أن يُوفّر بيئة صفّية دافئة ومُشجعة تساعد المتعلمين على الشعور بالأمان، ما يزيد من دافعيتهم للمشاركة الإيجابية.
أن يُراعي الفروق الفردية بين المتعلمين، من حيث ميولهم ومستوياتهم المعرفية، ويمنحهم حرية الاختيار بين المهام والأنشطة.
توظيف التكنولوجيا والتطبيقات التفاعلية .
في العصر الرقمي، تُعزز الوسائط والتقنيات الحديثة من تطبيق التعلُّم المُمتِع، من خلال:
استخدام تطبيقات الألعاب التعليمية (مثل Kahoot و Quizizz ) لإضفاء روح المنافسة الإيجابية.
الاستعانة بالواقع المعزز والواقع الافتراضي لشرح المفاهيم المجردة بشكل ملموس.
توظيف المحاكاة والتطبيقات التفاعلية لربط النظرية بالتطبيق العملي. كل ذلك يجعل التعلُّم أكثر جذبًا وتفاعلية، ويمنح المتعلم خبرات تعليمية غنية وممتعة.
أثر التعلُّم المُمتِع على الصحة النفسية لدى المتعلمين .
أظهرت أبحاث تربوية أن الأنشطة التعليمية الممتعة تساعد على تقليل التوتر والخوف من الفشل، وتمنح المتعلمين مساحة من السعادة والارتياح النفسي. إنّ الإحساس بالفرح داخل الصف يُعزز من الإبداع والتفكير خارج الأطر التقليدية، ويجعل من التعلُّم تجربة إيجابية تساعد على بناء مواقف دافعة ومحبّبة تجاه التعليم والمدرسة.
العلاقة بين التعلُّم المُمتِع والتعلُّم النشط والتعلُّم باللعب .
التعلُّم النشط: يشير إلى إشراك المتعلم بشكل إيجابي من خلال الحوار، الاستقصاء، والتفكير.
التعلُّم المُمتِع: يُعزز التعلُّم النشط بإضافة عناصر التشويق والمتعة.
التعلُّم باللعب: هو تطبيق نوع من التعلُّم المُمتِع من خلال ألعاب تربوية مخطّطة لتحقيق أهداف تعليمية ومهارية.
العلاقة بين التعلُّم المُمتِع والتعلُّم الاجتماعي العاطفي .
التعلُّم المُمتِع لا يقتصر على إكساب المعارف فقط، بل يُعزز من المهارات الاجتماعية والعاطفية. فعندما ينغمس الطالب في أنشطة جماعية ممتعة، يتعلّم كيفية التواصل، والمشاركة، والتفكير الإيجابي، ويتدرّب على ضبط انفعالاته. بذلك، يُشكّل التعلُّم المُمتِع وسيطًا فعالًا لإكساب المهارات الاجتماعية العاطفية وتعزيز روح الفريق والتعاطف بين المتعلمين.
الأسرة والمجتمع المحلي كشركاء في تطبيق التعلُّم المُمتِع .
يمتد دور استراتيجية التعلُّم المُمتِع إلى ما هو أبعد من حدود الصف المدرسي، حيث يُسهم أولياء الأمور والمجتمع المحلي من خلال:
تعزيز ممارسات التعلُّم المُمتِع داخل البيت، كإشراك الأبناء في ألعاب تربوية أو أنشطة علمية وميدانية.
مشاركة مؤسسات المجتمع (كالمكتبات والمتاحف والأندية الثقافية والعلمية) في إتاحة فرص تعلُّم شيّقة وممتعة تدعم مناهج المدرسة وتُعمّق أثرها.
خاتمة وتوصيات
في ظل متطلبات التربية المعاصرة، تُشكّل استراتيجية التعلُّم المُمتِع جسرًا حيويًا نحو تعزيز الإبداع والدافعية لدى المتعلمين. ولتحقيق ذلك على نحو فعّال، نوصي بما يلي:
إعداد المعلمين إعدادًا تربويًا متكاملًا يُعزز قدراتهم على توظيف أساليب التعلُّم المُمتِع.
دمج عناصر المتعة والإبداع داخل المناهج الدراسية على نحو مخطط ومقصود.
توسيع شراكة المدرسة مع الأسرة والمجتمع لدعم بيئات تعليمية مُحفّزة وممتعة.
إجراء أبحاث علمية موسّعة لقياس تأثير التعلُّم المُمتِع على مستويات التحصيل والدافعية لدى المتعلمين.
بهذه الرؤية المتكاملة، يُمكن أن يُسهم التعلُّم المُمتِع في إعداد أجيال متميزة، متفاعلة، ومُقبلة على التعلُّم بشغف، قادرة على مواجهة تحديات المستقبل بروح الإبداع والانفتاح.
*هبة يونس حسونة وعلا أمين شقفة، وسلوى عودة
*طلاب ماجستير
المراجع :
- الزغلول، عماد عبد الرحيم. (2010). مبادئ علم النفس التربوي. دار المسيرة للنشر والتوزيع.
- قطامي، يوسف محمود. (2004). نظريات التعلم والتعليم. دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع.
- الخليلي، خليل يوسف. (2006). المدخل إلى التربية الإسلامية. دار المسيرة للنشر والتوزيع.
- الشمري، نوال فهد. (2018). أثر استخدام استراتيجية التعلم باللعب في تنمية مهارات التفكير الإبداعي لدى طالبات المرحلة الابتدائية. مجلة العلوم التربوية والنفسية، جامعة البحرين، 19(2)، 150-175.
- عبد الحميد، فاطمة (2021). “أثر التعلم الممتع في دافعية الطلبة”. مجلة التربية المعاصرة، 35(2)، 67-91.
- صالح، أحمد (2019). “فاعلية التعلم باللعب في تنمية المهارات الاجتماعية لدى طلاب المرحلة الابتدائية”. المجلة العربية للتربية..
مواقع الكترونية :
- موقع الجمعية الأمريكية لعلم النفس www.apa.org
• موقع Edutopia: مقالات حول Engaging Learning Strategies
بوابة التربية – Tarbia gate بوابة التربية – Tarbia gate