الخميس , سبتمبر 11 2025

الدفاع عن المدرسة ليس أقل أهمية من الدفاع عن الحدود

 

 

بوابة التربية-  علي خليل ترحيني:

 

ليست التربية في أوطاننا مجرّد تلقين للعلوم أو نقلٍ للمعارف، بل هي فعل مقاومة يومي في وجه الانهيارات التي تعصف بالإنسان والمجتمع. فالمعلم والطالب معًا يجدان أنفسهما على فوهة بندقية، أو عند برميل بارود، لا يعرفان متى ينفجر، ولا كيف ينجوان من لهيبه. ومع ذلك تبقى المدرسة والجامعة حصناً أخيراً للمعنى، وجسراً بين حاضر يترنّح ومستقبل يُرجى.

الأزمات ليست حدثاً عابراً، بل صيرورة ممتدة تتغذى من الحروب والانقسامات والفساد والانهيار الاقتصادي والتدهور القيمي. هذه كلها تترك أثرها في النفوس قبل الأبنية، في العقول قبل المناهج. الطفل الذي يستيقظ على دويّ انفجار، أو ينام على قلق الجوع، يحمل جراحاً لا تعالجها الكتب وحدها. هنا تبرز التربية كواحة صغيرة في صحراء الخوف، مهمتها أن تزرع الأمل وتبني القدرة على الصمود.

إن الصدمات النفسية التي يعانيها الطلاب من قلق وحزن واضطراب ليست عرضاً جانبياً، بل هي جوهر التحدي. الانهيار القيمي الذي يسحق روح المجتمع يجعل من مهمة التربية أكثر إلحاحاً. تفكك النسيج الاجتماعي يفرض على المدرسة أن تكون نقطة التقاء حين تتبعثر البيوت والساحات. الضغوط الاقتصادية التي تخنق الأسر تجعل من كل حصة دراسية معركة ضد اليأس.

لهذا تتحمّل المؤسسات التربوية مسؤولية تتجاوز التعليم التقليدي. عليها أن تضع خططاً ومناهج واضحة تعالج الأثر النفسي، وتغرس قيم التسامح والحوار، وتبني جسور التفاهم. عليها أن تدرب الطلاب على التأقلم مع الأزمات، أن تعلمهم مهارات الحياة كما تعلمهم القراءة، أن تمنحهم لغة للتعبير عن خوفهم قبل أن تمنحهم قواعد النحو.

لكنّ التربية لا تُبنى في عزلة. تحتاج إلى تضافر الأهل، والمرشدين النفسيين، والقيادات التربوية الواعية. تحتاج إلى خطط طوارئ تضمن استمرارية التعليم، سواء في الصفوف أو عبر التكنولوجيا. تحتاج إلى بيئة آمنة تشعر الطالب بأنه ليس رقماً منسياً في تقارير النزوح والفقر، بل إنسان له الحق في الأمان والمعرفة.

إن التجارب العالمية في إدارة التعليم وقت الأزمات تثبت أن الاستعداد المسبق شرط للنجاة. الإمارات مثلاً قدّمت نموذجاً لاحتواء الأزمة اليمنية عبر التعليم البديل والدعم المؤسسي. فما الذي يمنع أن نستفيد من هذه الخبرات لنطوّع أزماتنا بدل أن نستسلم لها؟

التربية في الأوقات العادية صناعة مستقبل، أما في الأزمات فهي صناعة نجاة. هي التي تمنع الفاقد التعليمي من التحول إلى فاقد إنساني. هي التي تحمي جيلاً كاملاً من أن يغدو رهينة للظلام. والمعلم الذي يقف في صفٍ متصدّع، بلا كهرباء ولا وسائل، لكنه يزرع في طلابه حب المعرفة، يقوم بعمل يفوق السياسة والاقتصاد قيمة وأثراً.

يبقى السؤال: هل نريد لتربيتنا أن تبقى أسيرة ردّ الفعل، أم أن نبني لها هوية راسخة قادرة على مواجهة التحولات؟ الهوية التربوية ليست شعارات، بل قيم أساسية: الحرية، المسؤولية، العدالة، التكافل. وهي قيم لا تسقط مهما تغيرت الأدوات والظروف.

المستقبل يطلب منا تربية مرنة ومبدعة، قادرة على استخدام التكنولوجيا دون أن تفقد جوهرها الإنساني. يطلب قيادة تربوية تعرف كيف توازن بين الثابت والمتغير، بين الأصالة والتجديد. يطلب أن نفهم أن التعليم ليس قطاعاً كبقية القطاعات، بل هو قلب المجتمع، إذا توقف مات الجسد كله.

في النهاية، الأزمات قدر لا مفر منه، لكن التربية خيار. خيار أن نحمل أبناءنا على أكتافنا ونمضي بهم نحو نور بعيد، بدل أن نتركهم يتساقطون في هوة الانهيار. التربية ليست ترفاً، بل هي حقّ وواجب ورسالة. ومن يفهم هذه الحقيقة يعرف أن الدفاع عن المدرسة ليس أقل أهمية من الدفاع عن الحدود، وأن بناء الصفوف ليس أقل قداسة من بناء البيوت.

عن tarbiagate

شاهد أيضاً

طلاب لبنانيون نازحون  متروكون لمصيرهم

    بوابة التربية: كتب علي شفيق مرتضى*: “الشكوى لغير الله مذلّة”، عبارة يرددها  اللبنانيين …