
إعداد أمل ظاهر- شروق نوفل*:
في خضم السعي نحو تعليم حديث يُحرّر عقل الطالب ويطلق طاقاته الكامنة، تبرز استراتيجية عباءة الخبير كواحدة من أكثر الأساليب إبداعًا وجاذبية، حيث يتحول الطالب من متلقٍ سلبي إلى خبير فاعل يعيش التعلّم
بكل جوارحه. في زوايا الصف المعتادة، وبين الجداول والمقاعد، يحدث أمر غير مألوف، الطلاب لا يجلسون لسماع شرح تقليدي، بل يتحركون، يتناقشون، يتقمّصون أدوارًا، ويديرون مواقف تعليمية واقعية، وكأنهم يعيشون قصة حقيقية.
هذا هو جوهر استراتيجية عباءة الخبير، الأسلوب الذي لا يعلّم فقط، بل يبني شخصية الطالب من الداخل.
ظهرت هذه الاستراتيجية على يد العالمة التربوية البريطانية دوروثي هيثكوت، التي أرادت أن تكسر الحاجز بين المتعلم والمعلومة، وتقوده ليكون طرفًا فاعلًا في إنتاج المعرفة، لا مجرد مستهلك لها. تقوم عباءة الخبير على مبدأ تمثيل الطالب لدور “خبير افتراضي” في موقف درامي متخيل، حيث يتقمص دورًا مهنيًا محددًا (كالطبيب، أو الباحث، أو المستشار، أو عالم الآثار)، ويتفاعل مع سيناريو منظم ومفتوح النهاية، يتطلب منه أداء مهام حقيقية ومترابطة ذات أهداف تعليمية واضحة.
هي استراتيجية تجمع بين الخيال والتعلم الواقعي وبين الأداء الدرامي والتفكير التحليلي، لتصنع بيئة صفية قائمة على الانغماس العميق في الموقف التعليمي، يتحوّل المتعلّم إلى صانع قرار، ومخطط، ومُنفذ… كل ذلك في جو تفاعلي مليء بالحيوية والاحترام
في هذا السياق، لا يكون المعلم محور الدرس، بل يتحوّل إلى ميسر وموجه يساعد على توسيع الخيال وتنظيم الموقف التربوي، بينما ينخرط الطلاب بفاعلية في عمليات البحث والتخطيط والتنفيذ والتقويم الذاتي، في بيئة آمنة ومفعمة بالحيوية. المدهش في هذه الاستراتيجية أنها لا تعتمد على الإلقاء أو العرض المباشر، بل تنقل المعرفة من السياق المجرد إلى الواقع الافتراضي، حيث يتفاعل الطالب مع المشكلة كما لو كانت حقيقية، ويبحث عن حلول حقيقية بطرق إبداعية.
عباءة الخبير لا تركز فقط على تنمية الجانب المعرفي، بل تذهب إلى أبعد من ذلك، حيث تلامس الجوانب الوجدانية والاجتماعية لدى الطالب. فالانخراط في الأدوار، واتخاذ القرار، والتعاون مع الزملاء، كلها مواقف تنمّي الثقة بالنفس، وتُحفّز احترام الذات، وتُعمّق من الإحساس بالمسؤولية، خاصة حين يُعامل الطالب كخبير محترف يملك رأيًا وخبرة، ولو افتراضيًا.
وقد أثبتت الدراسات والتجارب الميدانية أن تطبيق هذه الاستراتيجية في الصفوف الابتدائية والثانوية ساهم في رفع دافعية الطلبة نحو التعلم، وتحسين مستوى التحصيل، وتطوير مهارات العرض والتواصل، إلى جانب زيادة قدرتهم على حل المشكلات بشكل منهجي. كما أن عباءة الخبير تعزز قيم الحوار، والانفتاح، وتقبّل الرأي الآخر، كونها تدفع الطالب إلى بناء موقفه بعد نقاش وتبادل أفكار.
كيف تُنفّذ عباءة الخبير في الحصة الدراسية؟
- تُختار حالة درامية أو سيناريو تمثيلي ينسجم مع هدف الدرس (مثل: إدارة فريق أثري يبحث عن كنوز حضارة مفقودة).
- يُحدّد دور كل طالب (خبير خرائط، عالم آثار، موثق، مصمم، مدير مشروع…).
- تُطرح مهمة ذات طابع تطبيقي (كتحليل وثيقة، تصميم حل، إعداد ملف).
- يُجمع المتعلمون الأدلة، يناقشون، يُنتجون، ويعرضون أمام لجنة أو جمهور.
- ينتهي الدرس بتأمل وانعكاس ذاتي حول ما تعلّموه وكيف شعروا به.
والمعلم هنا لا يلقّن، بل يوجه، ويسأل، ويدفع للتفكير والتخيل.
في الختام:
عباءة الخبير ليست مجرّد استراتيجية لتدريس موضوع، ليست مجرد تمثيل أو لعبة، إنها فلسفة تربوية تحترم عقل الطالب، وتنظر إليه كفرد قادر على الإبداع والإنتاج، هي دعوة لإعادة النظر في دورنا كمعلمين، ولإيمان جديد بأن المتعلم هو المحور، إذا ما منحناه المساحة والدور، إنها نافذة تطل منها على عقل الطالب وقلبه في آنٍ واحد، حين تعامل الطالب كخبير فإنك لا تعلمه فقط بل تثق به.
هل جرّبت يومًا أن تدرّس درسك وكأن طلابك يديرون شركة، أو يقودون بعثة علمية؟
ربما تكون تلك الخطوة التالية نحو صفٍ نابض بالمعنى والخيال…
رابط للتطبيق العملي لإستراتيجية عباءة الخبير
https://drive.google.com/file/d/1cbWJcouZz2RejdaNhbt-_LojFt1Ww5It/view?usp=sharing
*طالبات ماجستير مناهج وطرق تدريس
بوابة التربية – Tarbia gate بوابة التربية – Tarbia gate