كتبت الطالبة جانو مرضعة:
تردّدت كثيرا أن أروي إحدى سرديات الحرب الأخيرة على لبنان لسبب واحد هو أن الزمن لم يمر لتصبح تاريخًا ومن سأتطرق لهم بالذكر لم استأذنهم بالنشر ولكن لأن الحق يُقال أطلقُ لكم هذه الواقعة.
بصفتي طالبة ثانوية سابقة وجامعية حالياً، وبسبب الظروف التي هبّت بالتربية لسنوات تبنيت عدة قضايا تربوية وكان لي شرف التعرّف على شخصيات تربوية ومنهم خلال الحرب الأخيرة المدير العام للتربية السابق عماد الأشقر (رئيس مصلحة التعليم الخاص حاليا).
هذه الشخصية التربوية تابعتها عن كثب بحكم إهتماماتي بالملف التربوي من خلال إطلالاته الإعلامية أو التربوية أو المواقف أو صفحته الخاصة.
ما لفتني صراحة تواضعه المُفرط مع الطلاب والأهالي، ومتابعتهم حتى مقاعد الدراسة، جالسهم وجالسوه، سمعهم وسمعوه، ولم تكن تلك الصور والفيديوهات دعاية شعبوية لشخصه إنما هي حقيقة شخصية هذا الرجل.
ما استوقفني بقوة يوم إستشهد صديقه الاستاذ الثانوي الشهيد أحمد سلوم …
قرأت رثاءه في كل المواقع الإلكترونية، تأثرت لتأثره، مزج كلامه بحرقة الفراق وصدمة الحقيقة، وكرر عبارات خنقت مُطلقها: يا صديقي…. آه يا أحمد… يا صديقي الشهيد…. أرثيك بفخر… لم تخبرني أنك سترتقي شهيدا… دماؤك تزهو نصرًا.
يومها صراحة قررت التعرّف على هذه الشخصية التي لطالما شغلت إهتمامي.
تزامن قراري قبل يومين من إنتهاء الحرب، وبعد تطمينات لعائلتي التي عارضت المخاطرة بالذهاب من صيدا إلى بيروت كانت زيارتي لمكتبه في اليوم الأخير للحرب بحجة مراجعة قضية تربوية تخصّ أحد أبناء إحدى العائلات النازحة في منزلنا في صيدا.
لعل طلب مديرة مكتبه مني بالإنتظار على مقعد مخصص للزائرين، جعلني أظن أن الأمر سيطول كثيرًا، ولكن ما هي إلا لحظات حتى وجدتُ نفسي وجهًا لوجه مع مدير عام التربية عماد الاشقر يستقبلني في مكتبه.
عرضت عليه القضية وبادر بالحل فورا وأخبرني أنه لا داعي للمخاطرة بالمجيء وزودني “بكارت” عليه رقمه الارضي والخلوي وطلب مني العودة مبكرًا لخطورة الطرقات وأراد إنهاء اللقاء ب 5 دقائق فأضفت عليها 10 بحشريتي التربوية ورحابة إستماعه.
ما لفتني هو مقاطعة موظفيه له خلال لقائنا لأمور مستعجلة نتيجة الحرب، وسمعته يقول لهم: “لا تخافوا عم دوام ل الليل هون”.
عند عودتي إلى صيدا، علمت أن العدو أطلق تهديدات بقصف مدينة بيروت، وان هناك زحمة سير خانقة على الخط البحري (الروشة- عين المريسة) بسبب هروب أهالي بيروت وتحويل كل السيارات من خط كورنيش المزرعة إلى الخط البحري، تساءلت من أين سيغادر مدير عام التربية وزارة التربية طالما أنه حسب ما سمعت متواجد في وزارة التربية، بعد مناوشات داخلية في قرارة نفسي اتصلت على رقمه الخلوي ليلًا لسؤاله إنّ غادر مكتبه ام لا، لم يعرفني واعتذر لعدم المعرفة لكثرة المراجعين، واستغرب سؤالي عن سلامته وأخبرني أنه سلك طريق كورنيش المزرعة المهدد بالقصف بسرعة لخلوّه من السيارات… “والله الحامي وإنّ كان مكتوب لنا الشهادة فلا تنسوا أن ترّثونا كما الشهداء واللي راحوا مش اغلى مني” بهذه العبارات ختم الإتصال.
لست هنا لأتملق بمحاسن الكلمات بحق هذا الرجل، إنما لإنصافه بحق وواقعية، وبعد زيارات عدة قمتُ بها بعد إنتهاء الحرب، يمكنني القول أن الريس عماد الاشقر للسيف والضيف وغدرات الظروف، مقاوم بكل ما للكلمة من معنى، تربوي، وفيّ، إنساني بحت، متواضع من خلف الشاشات كما أمامها، صاحب الأبواب المُشرعة لكل طالب حاجة ضمن مهامه.
“من الآخر” في الشدائد تُعرف معادن الرجال لا خارجها.