السبت , سبتمبر 20 2025

من الجامعة اللبنانية إلى جامعات العالم: إسهامات د. أحمد دمج في الدراسات الأندلسية

 

 

بوابة التربية- إعداد د. أنور الموسى:

 

تُبرز الجامعة اللبنانية، في كل مرحلة من مسيرتها الأكاديمية، عددًا من الباحثين الذين تجاوز إشعاعهم حدود المؤسسة والوطن، ليصبحوا مراجع أساسية في ميادين اختصاصهم، على المستويين العربي والدولي. ومن بين هذه الكوكبة المشرقة، يبرز اسم البروفيسور أحمد شفيق دمج.  فخلال سنوات عمله باحثًا وأستاذًا في جامعة غرناطة، أنجز مجموعة من الدراسات باللغة الإسبانية، تناولت موضوعًا بالغ الأهمية: علاقة المثقفين بالسلطة في عهد بني نصر، آخر ممالك المسلمين في الأندلس وعرف هذ العهد أيضا بمملكة بني الأحمر التي شيدت أهم المعالم الأثرية في العالم: قصر الحمراء.

وقد غدا هذا المشروع العلمي مرجعًا أساسيًا لعدد متزايد من الباحثين في مختلف أنحاء العالم، كما يتجلّى في الاعتماد الواسع على أعماله  في أطاريح جامعية عديدة، نكتفي بذكر أربع رسائل دكتوراه نوقشت في عدد من كبريات الجامعات العالمية: جامعة غرناطة (إسبانيا)، وجامعة شيكاغو (الولايات المتحدة)، وجامعة كارلوفا في براغ (جمهورية التشيك)، والجامعة الوطنية المستقلة في المكسيك.

في أطروحة جامعة شيكاغو، التي تجاوزت 700 صفحة، وعنوانها:

THE SCRIBE OF THE ALHAMBRA: LISĀN AL-DĪN IBN AL-KHAṬĪB, SOVEREIGNTY AND HISTORY IN NASRID GRANADA

“كاتب قصر الحمراء: لسان الدين ابن الخطيب والسيادة والتاريخ في غرناطة النصرية

يشير الباحث في أكثر من موضع إلى القيمة المرجعية لأعمال الدكتور دمج، ويقول في أحد المقاطع:

“لقد أضاء عمل أحمد دمج على الدينامية بالغة الأهمية التي حكمت العلاقة بين كتّاب البلاط والسلطة الحاكمة في عصر بني نصر، كاشفًا عن تفاعل معقّد ومتشابك بين موقعهم الوظيفي وأدوارهم السياسية. وتمثّل دراسته إسهامًا محوريًا في فهم العلاقة التي نشأت بين هذه الطبقة من الكتّاب والسلطة في ظل دولة بني نصر، تحديدًا، لما تقدّمه من تحليل معمّق للسياقين السياسي والثقافي اللذين شكّلا هذه العلاقة”.

وفي موضع آخر من الأطروحة ذاتها، يشير الباحث إلى إسهام الدكتور دمج إلى جانب المستعرب الإسباني البارز إيميليو مولينا لوبيث، فيقول:

“في الآونة الأخيرة، أسهم كلٌّ من إيميليو مولينا لوبيث وأحمد شفيق دمج في إغناء قراءتنا لفكر ابن الخطيب، كاشفين كيف تسلّلت رؤاه السياسية إلى ثنايا كتاباته التاريخية والأدبية، حتى غدت السياسة عنده نَفَسًا يسري في سرده، ومرآةً تعكس قلقه الفكري وتفاعله العميق مع زمنه”.

ويجدر التنويه بأن الدكتور إيميليو مولينا لوبيث الذي يرد اسمه في هذا السياق، لم يكن سوى المشرف على أطروحة الدكتور أحمد دمج في جامعة غرناطة، وهو نفسه من تولّى كتابة مقدمة كتابه المعروف “الأدباء والعلماء في لوشة الأندلسية”، العمل الذي حاز به الدكتور دمج جائزة “جمعية ابن الخطيب للدراسات” في إسبانيا.

وفي تلك المقدمة، لا يكتفي البروفسور مولينا بالإشادة بالخصال العلمية والبحثية لتلميذه، بل يراه امتدادًا حيًّا لمدرسة كبار المستعربين، فبعد أن يستعرض أسماء بعض الأعلام الذين أسّسوا لهذا التقليد العلمي، يستدرك قائلًا:

“لكن ثمّة سِمة مميزة – تضاف إلى سواها – تتجلّى في أحمد دمج على نحو خاص حين يتعلّق الأمر بابن الخطيب: إنّها قدرته الفائقة على الكشف عن النوايا المستترة التي لا يُفصح عنها النص العربي في قراءته المباشرة، أو لا يُفصح عنها بوضوح كافٍ؛ تلك السهولة التي يمتلكها في جعل الضمنيّ ظاهرًا، وفي إسباغ السلاسة على الفكرة، لا على مجرد العبارة؛ إنّها، باختصار، حدسٌ رفيع يمثّل قيمة مضافة حين يكون موضوع الحديث هو ابن الخطيب نفسه، الذي لا شكّ أنه، كما قال غارسيا غوميث، “أحد أعقد الكتّاب في المشهد التاريخي الأندلسي، ليس بالنسبة إلى الأوروبيين فحسب، بل حتى للعرب أنفسهم  فليس بمقدور أي إنسان أن يمسك بهذا الثور من قرنيه”  ) كناية عن التصدي المباشر لأمر بالغ الصعوبة  وفيه مجازفة(

من الصعب اختزال مجالات اهتمام الدكتور أحمد دمج؛ فإلى جانب تخصّصه العميق في الدراسات الأندلسية، قدّم إسهامات نوعية في الأدب المقارن، ولا سيما في دراساته عن المسرحين الإسباني والعربي، كما نقل إلى العربية عددًا من روائع الشعر الإسباني. وقد تميّز في كل ذلك بمنهج تحليلي دقيق يستقرئ الأبعاد الفكرية للنصوص، ولا عجب في ذلك، فهو، إلى جانب تخصّصه الأدبي، خريج قسم الفلسفة في الجامعة اللبنانية.

ولا شك أن هذه الخبرة البحثية المتراكمة قد انعكست بجلاء في  مطالعاته ومحاضراته في “منهجية البحث” التي استطاعت أن تستقطب اهتمام الطلبة، لما اتسمت به من عمق في الطرح ووضوح في التوجيه، فكانت مصدر إفادة علمية كبيرة لهم، ومنبرًا لترسيخ أسس البحث الأكاديمي الرصين. وقد عاينتُ ذلك بنفسي، حين كنت رئيسًا لقسم اللغة العربية في الفرع الخامس، وكنتُ شاهدًا على أثرها الإيجابي في الطلاب.

إن إسهامات زميلنا الدكتور أحمد شفيق دمج تتجاوز حدود التميّز العلمي الفردي؛ فهي شهادة على قدرة الجامعة اللبنانية على إنتاج معرفة قادرة على التفاعل مع الخطاب العلمي العالمي متى اقترنت بالكفاءة، والاجتهاد، ورؤية منفتحة على آفاق البحث العلمي.

نماذج من رسائل جامعية للدكتور أحمد دمج

عن tarbiagate

شاهد أيضاً

أهمية الإدارة الإستراتيجية

كتبت آلاء جبر العفيفي: تعد الإدارة الإستراتيجية من مجالات الدراسة التي نالت اهتماماً واسعاً في …