كتبت- د. رؤى إبراهيم حسني الصلحات:
مرّ التعليم الفلسطيني خلال السنوات الأخيرة باختبارات قاسية شكلت تهديدًا مباشرًا على بقائه وتطوره، فمن جائحة كورونا التي فرضت تحولًا اضطراريًا نحو التعليم الإلكتروني، إلى الحروب المتكررة على قطاع غزة والتي دمّرت البنية التحتية التربوية، ظل النظام التعليمي الفلسطيني يحاول البقاء، هذه التأملات تسعى لتسليط الضوء على هذا الصمود، وتقييم ملامح التجربة، واستخلاص دروس مستقبلية تضمن استمرارية التعليم في أصعب الظروف.
أولًا- من التعليم الوجاهي إلى الإلكتروني – استجابة الجائحة
عندما أُغلقت المدارس في مارس 2020، لم يكن النظام التعليمي الفلسطيني مستعدًا تمامًا للانتقال الفوري إلى التعليم عن بعد، ومع ذلك، أظهرت وزارة التربية والتعليم، بدعم من المؤسسات الدولية، مرونة نسبية في التحول إلى المنصات الرقمية مثل Microsoft Teams وGoogle Classroom (UNESCO, 2021).
لكن هذه التجربة واجهت تحديات كبيرة، أبرزها لخصها (شقفة، 2022):
- ضعف البنية التحتية التكنولوجية.
- انقطاع التيار الكهربائي المتكرر.
- فجوة رقمية بين الطلبة والمعلمين.
- تدنّي مهارات المعلمين في تفعيل أدوات التعليم الإلكتروني.
ورغم هذه التحديات، لعب المعلم الفلسطيني دورًا حيويًا في خلق بيئة تعليمية مرنة ومُتكيفة مع أدوات العصر، مما ساهم في استمرار العملية التعليمية ولو بحدّها الأدنى.
ثانيًا- التعليم في زمن الحرب – غزة نموذجًا
جاء عدوان 2021، ثم العدوان الأشد في 2023–2024 على غزة ليزيد الطين بلة، حيث دمّرت مئات المدارس وتوقفت العملية التعليمية قسرًا، لم يكن التعليم الإلكتروني خيارًا سهلاً، في ظل انقطاع الإنترنت والكهرباء، وتعرض البنية التحتية للهجمات، وفقدان الآلاف لمنازلهم (OCHA, 2024).
ورغم ذلك:
- تم استحداث مبادرات محلية للتعليم المجتمعي في المساجد والملاجئ.
- عملت بعض المدارس على تقديم محتوى مطبوع أو مسموع.
- أطلقت وزارة التربية والتعليم برنامج “التعليم في الطوارئ”، كتجربة بديلة تعكس الرغبة في الاستمرارية (وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، 2024).
ثالثًا- الدروس المستفادة – من الضعف إلى الصمود
من التجربة الممتدة من الجائحة إلى الحروب، يمكن استخلاص مجموعة من الدروس التربوية المهمة:
- ضرورة بناء نظام تعليم طارئ مرن لا يعتمد فقط على الإنترنت بل يشمل أدوات تعليم بديلة كالمناهج المطبوعة، والتعليم الإذاعي.
- التدريب المستمر للمعلمين على استراتيجيات التعليم عن بعد والتعليم المجتمعي.
- شراكة فاعلة مع الأسرة التي أثبتت أنها أحد أعمدة العملية التعليمية خلال الجائحة.
- تعزيز الصحة النفسية للطلبة والمعلمين، خاصة بعد الصدمات المتكررة.
رابعًا- مفهوم التعليم المقاوم
ظهر مؤخرًا مفهوم “التعليم المقاوم“ أو (Resilient Education)، ويقصد به التعليم الذي يصمد ويستمر رغم الظروف الطارئة أو الكوارث، في السياق الفلسطيني، يتجلى هذا المفهوم بوضوح من خلال:
- استمرار المدارس في تقديم التعليم رغم العدوان.
- تطوير أدوات مرنة مثل التعليم المجتمعي.
- دور الطلبة والمعلمين كفاعلين في استمرارية المعرفة، لا كمستقبلين فقط.
التعليم في فلسطين ليس فقط وسيلة للمعرفة، بل أداة من أدوات البقاء الوطني والهوية الثقافية. (Hilal, 2021)
خامسًا- التعليم الإلكتروني ليس رفاهية بل ضرورة
كانت جائحة كورونا لحظة إدراك وطني أن التكنولوجيا التعليمية ضرورة وليست خيارًا، ومع استمرار الحروب والانقطاعات، تتأكد الحاجة إلى:
- تطوير محتوى رقمي محلي يلائم بيئة الطلبة في غزة.
- إنتاج دروس على أقراص مدمجة أو ذاكرات USB في حال غياب الإنترنت.
- إعادة تصميم المناهج لتتضمن مسارات تعليمية بديلة للطوارئ.
دمج التعليم الرقمي ضمن الخطط الاستراتيجية للوزارات أصبح من أولويات الصمود التعليم. (UNICEF, 2023)
سادسًا- الأثر النفسي على المعلمين والطلبة
لا يكتمل تحليل الوضع دون التطرق إلى الأثر النفسي الهائل:
- الطلبة يعيشون صدمات متكررة: القصف، فقدان الأقارب، النزوح.
- المعلمون يؤدون أدوارًا مزدوجة: تدريسية ودعم نفسي.
لذا بات من الضروري أن تتبنى وزارات التعليم برامج “المساندة النفسية التربوية” داخل الصفوف، وتدريب المعلمين على مهارات الدعم النفسي الأوّلي.
سابعًا- آفاق مستقبلية – كيف يمكن ضمان استدامة التعليم؟
مقترحات تطويرية:
- إدماج التعليم في الطوارئ ضمن السياسات التربوية الدائمة.
- توفير مولدات بديلة للمناطق التعليمية المحاصرة.
- إنشاء قاعدة بيانات موحدة للطلبة يمكن الوصول إليها حتى أثناء النزوح.
- بناء شراكات بين التعليم والصحة والدفاع المدني في حالات الطوارئ.
- ضرورة إعادة تخيل المدرسة أي بدلاً من النظر إلى المدرسة كمبنى فقط، يجب النظر إليها كمفهوم متنقل، يمكن أن يُبنى مؤقتًا، رقميًا، مجتمعيًا، أو في المساحات العامة.
خاتمة
رغم الكوارث المتلاحقة، أثبت التعليم الفلسطيني أنه “لا يُهزم بسهولة”، وأن الإرادة الوطنية قادرة على تجاوز التحديات التكنولوجية والميدانية، المطلوب اليوم ليس فقط تأمل هذه التجربة، بل البناء عليها لتشكيل منظومة تعليم مقاوم، قادر على الصمود والتطور، بل وقيادة التغيير في المستقبل.
المراجع
- Hilal, R. (2021). Resilient Education under Occupation: The Palestinian Case. Journal of Educational Resilience, 4(2), 115–130.
- OCHA. (2024). Occupied Palestinian Territory: Humanitarian Needs Overview 2024. https://www.ochaopt.org
- شقفة، ن. (2022). واقع التعليم الإلكتروني في مدارس محافظات جنوب فلسطين في ظل جائحة كورونا. (رسالة دكتوراه غير منشورة). الجامعة الإسلامية بغزة.
- UNESCO. (2021). Education in the time of COVID-19: Resilience stories from Palestine. https://www.unesco.org
- UNICEF. (2023). Digital Learning in Conflict Zones: Opportunities and Challenges. https://www.unicef.org
- World Bank. (2022). Education in Emergencies: Rebuilding Systems after Crises. https://www.worldbank.org
- وزارة التربية والتعليم الفلسطينية. (2024). التعليم في الطوارئ في قطاع غزة بعد العدوان. رام الله: الإدارة العامة للتخطيط.
- Save the Children. (2024). Education Under Fire: Gaza Report 2023–2024. https://www.savethechildren.net