بوابة التربية: قدم البروفسور جان داود ندوة-ورشة بعنوان: “مسارات العلاج النفسي في زمن الذكاء الاصطناعي: حتمية اللعب والفن والإبداعية”، بدعوة من رئيسة الفريق البحثي في علم النفس في المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية – الجامعة اللبنانية، الأستاذة الدكتورة بهاء يحيا، وذلك بحضور باحثين وأساتذة ومتخصصين وطلاب دكتوراه.
في الجزء الأول من الندوة-الورشة، تناول داود التحول الذي أحدثه الذكاء الاصطناعي في عمل الأفراد، مشيرًا إلى قدرته المتنامية على استنساخ الأفكار نقلاً أو مماهاة أو محاكاة، وتقديم خدمات تفسيرية قد تلامس مهنة المعالج النفسي. كما أنّه فرض نفسه على بعض العاملين في العلاج النفسي والتعلم. فالذكاء الاصطناعي طوّر نفسه مستعينًا بأبحاث أكاديمية وأوراق علمية وكُتب تمكّن منها. فبات بالنسبة لكثيرين مرجعية: بات مرجعًا لكثير من الطلاب (مع الأسف). بات مرجعًا لكثير من الباحثين المستعجلين (مع الأسف أيضًا). بات مرجعًا لكثير من أصحاب الهموم وحتى لبعض المتدربين على العلاج، وربما هو يقوم بشكل خفي على استدراج بعض المعالجين بأسئلته وعروضه بتقديم أفكار (بهدف المساعدة بكرم وتنمية نفسه والتدرب، وهذا حق مشروع له، خاصة وأنه يؤكد بأنه ليس بمعالج إنما فقط مساعد عندما يطلب أحدهم مساعدة). وأشار داود إلى أن الذكاء الاصطناعي لن ينجح في أن يحلّ مكان المنهج الكلّي ولا أن يحقق معه ما قد يحققه مع مناهج أخرى. حيث أنّ منهج داود قائم بالجسد وعليه ويطرح البعد الفلسفي كإطار للمقاربة والكينونة، ويسعى في أحد أركانه على توليد المعنى (بحسب وسائله ورؤيته)، وإعادة المعنى في حالات أُخرى. في حين أنّ الذكاء الاصطناعي خارج الجسد والمشاعر، وهو قادر على شراكة في استيلاد المعاني إنّما ليس على إبداع المعنى (بما يطرحه داود في منهجه الكلي). الذكاء الاصطناعي شريك في استيلاد المعاني المتعددة (بوصفها ناتجًا لغويًا وتحليليًا قابلًا للمراكمة)، إلا أنه سيبقى عاجزاً بنيويًا عن إنتاج “المعنى” في دلالته الوجودية المتجسدة في طرح داود؛ ” فالمعنى – بحسب داود – لا يُستخرج من المعطيات الرقمية والكمية واللغوية فقط، بل يُبنى عبر التجربة، ويُولد من دراماتورجيا المشاعر ومن البصيرة، ويُجسَّد عبر الإبداعية”.
انطلاقًا من هذا التمييز الجوهري، رأى داود أن ما يُهدد العملية التربوية والعلاجية هو استسهال الاستبدال بين الإنسان والآلة، في حين أن “الصفاء والاستصفاء” (العلاج بمصطلح علم النفس) فعل مدرحي (ماديًا – جسديًا)– خياليًا – وجوديًا) لا يمكن تمثّله اصطناعيًا.
وقبل أن تنحو الجلسة العلمية إلى الجزء التطبيقي، أكّد داود على أنّ المقاربة التحليلية والعملية في منهجه وليدة رؤية فلسفية متأثرة بالرياضيات وترقى في بعض جوهرها إلى البصيرة. وهذه الفلسفة هي النواة المتحركة المُولِّدة لعِلم “دراماتورجيا الممثل” ، ودراماتورجيا المشاعر” بما رآه داود في استمرارية أبحاثه كقاعدة للعمل وأعاد طرحه في مؤتمرات علمية ( 2002)، مؤكدا مفهوم زرع المعنى وتوليده. ولفت داود إلى أن عمل النفساني في جوهره الخفي (بغض النظر عن السمة العلمية) يشبه ما يفعله الفنان – كل منهما يعيد بناء حياة من رماد التجربة.
حملت الورشة العمليّة البراهين وأكدت الطروحات النظرية، وأبرزتفاعلية اللعب الذهني، الموازي للجسديات، في مسارات منهجه المختلفة، وتحديداً في مسارَي التربية على الإبداعية، الصفاء والاستصفاء أو العلاج النفسي. وأكّدت بالبرهان أن هذه الألعاب لا تقل تأثيرًا أو عمقًا عن الألعاب الجسدية والفنية التي سبق وأثبتت فاعليتها في حالات علاجية متعددة بحسب أكثر من دراسة علمية وأطروحة جامعية وورشات عمل وتدريب. .
أثبتت مشاركة الحضور وتعبيرهم الراجح للطروحات النظريّة. وبيّنت مشاركة الحضور في الألعاب الذهنية المأخوذة من المنهج الكلي كيف يؤدي اللعب (بتعبير داود) إلى تحولات عميقة وإضاءات منيرة على مستوى الوعي. وقد أكد داود أنّ هذه التحولات خطوات أساسية في بناء الذات وحتى في المقاربة العلاجية لفهم الآخر وطريقة عمل العقل والعاطفة لديه في الأزمات وللبناء عليها في التخطيط العلاجي.
لقد اتسم هذا الجزء من الورشة بإيقاعٍ فكري ونشاط ذهني مرن، ظهر من خلاله دور اللعب (حتى في شكله الذهني) المطروح بحسب المنهج الكلي في التأصيل (بمعنى السعي الى الأصالة)، والعمل على تحصين الذات، وفي تحفيز المقاربة من خارج المألوف، وتعزيز مرونة التفكير، والعمل في المشكلات، والارتقاء بالعلاقة بين الذهن والخيال والتفكير الإبداعي… وتُعزز هذه النتائج طرح داود وسعيه إلى كل امرء نفساني نفسه. كما تحمل إلى مناخات من الاسترخاء (بحسب طرح داود لمصطلح الاسترخاء) المعزَّز حيث تحت هذا المرح مستوى عال من الجدية. ويعمل داود تحت هذا الغطاء على تدريب التفكير المنهجي الحر المُبدِع، وبناء مرونة معرفية ووجدانية في آن واحد.
اللعب ليس ترفًا… بل عمق استراتيجي في بناء الذات!
من أهم ما شدد عليه داود هو أن اللعب في منهجه، سواء أكان جسديًا أو ذهنيًا أو فنيًا، ليس نشاطًا وأداة يتمّ إلحاقها واستخدامها في العلاج، أوالتربية الإبداعية، أو التحصين النفسي. إنّما اللعب في طرحه عمق استراتيجي جوهري لبناء الذات، فاللعب يُفعّل الخيال الإبداعي، ويُعيد بناء العلاقة بين الفكر والإحساس، ويفتح قنوات بديلة للمعالجة النفسية تتجاوز الانفعالات السطحية نحو تفكيك البنى العميقة للمقاومة والصراع… كذلك، ينشط اللعب شبكات عصبية متعددة، ويطور آليات الانتباه، والتركيز، ودقة الملاحظة، والتفاعل، والمبادرة، وقراءة الحلول ورصدها والحكم على جدواها وفاعليتها… مبيّنًا كيف يولّد اللعب استجابات نفسية جديدة تُعيد للفرد حريته في الفعل والتعبير.
اختتم داود الجلسة العلمية بالتنبيه إلى أن المعركة اليوم ليست بين التكنولوجيا والإنسان، بل بين تسطيح الإنسان وتحقيقه لذات مبدعة غير تابعة. وأكد أن الذكاء الاصطناعي، وإن كان أداة متفوقة في سرعتها وبعض منجزاتها، فلا يُنتظر منه أن يربّي، ولا أن يعالج وإن كان للبعض مساعداً، كما أنّ المُبدِع لا يسمح للذكاء الاصطناعي أن يحلّ مكانه. من هُنا، بعض أهمية عمل داود حيث جعل من اللعب والفن والإبداعية ً حصنا في معركة وجودية ومسار بمنتهى الخطورة في زمن الرقمنة وتصنيع الذكاء. فبات المنهج الكلي حتمية.
وأشار داود إلى أنّ مختبره يضع في أولوياته التجديد المستمر والتحفيز اللامنتهي للتجدد ومنع الاحتراق النفسي والحماية من الاستسلام وتسليم الذات إلى ما هو أخطر من غسل الأدمغة: تعطيلها. وأكّد على أهمية فتح المساحات والمسارات للتفكير الإبداعي والاختبار داخل المؤسسات الأكاديمية وضروة إعادة النظر باستمرار في المقاربات لصالح مسارات أكثر غنى وحيوية وشمولية.
بعد أن شكر البروفسور داود الحضور وعبّر عن اعتزازه بهم وبما قدّموه من شهادات حية عن أثر التجربة وما حملت، ختم بتوجيه تحية إلى الجامعة اللبنانية برئيسها وعميد المعهد العالي للدكتوراه وإلى رئيسة الفريق البحث في علم النفس . وعلّق أملاً بدور هام للجامعة الأم في حمل الطروحات المجددة إلى العالمية. وأشادت الأستاذة الدكتورة بهاء يحيا بعمق الطرح وأصالته، وجمال التجربة، مؤكدة أن الجامعة الوطنية يجب أن تبقى فضاءً للتجريب والتفكير النقدي الحرّ. كما أشادت بصدى طروحات داود وأثرها على الحضور وأكدت على أهمية الجديد الذي تحمله إلى مثل هذه المحافل العلمية.