كتبت عبير أحمد درويش*:
… من بين أبرز التطبيقات التربوية للذكاء الاصطناعي يبرز التعلم التكيفي، الذي يُعد نموذجًا متقدمًا للتعليم المتمركز حول المتعلم، حيث يلتقي فيه التحليل الخوارزمي مع الفهم البشري، ليخلق بيئة تعليمية تتكيّف مع المتعلم لا العكس، وتحاكي احتياجاته، وترافقه في مسار تعلمه كما يفعل المعلم الحاذق، وخلال المقال دعونا نتخيل ماذا لو تعلّم المتعلم كما لو لا يرى المعلم سواه!
التعلم التكيفي
هو منظومة تعليمية ديناميكية توظف تقنيات التكنولوجيا لتخصيص المحتوى والأنشطة ومسارات التعلّم، بما يتناسب مع مستوى الفهم، ونمط التعلم، وسرعة التقدّم الفردي، لتلبية الاحتياجات الفردية لكل متعلم.
فبعيدًا عن المناهج الجامدة التي تفرض على الجميع نفس المسار، يُتيح التعلم التكيفي لكل متعلم أن يسلك طريقًا يناسبه، فيتعلم وفق ” متى نضج هو” لا ” متى وصل الجميع “، و”كيف يفهم هو” لا “كيف يفهم الجميع” إنه تعليمٌ ينبع من المتعلم لا يُفرض عليه، ويمنحه صوتًا لا يُلغى، وخريطةً تُرسم بملاحظاته، وتُعدّل باستجاباته.
الذكاء الاصطناعي
هو مجال من علوم الحاسوب يدرس إنشاء أنظمة ذكية قادرة على أداء مهام تتطلب ذكاءً بشريًا، حيث يستخدم خوارزميات قائمة على التعلم المعزز والتعلم العميق لتحليل البيانات واتخاذ القرارات.
الذكاء الاصطناعي: القوة الخفية للتعلم التكيفي
يُشكّل الذكاء الاصطناعي القوة المحركة الخفية خلف أنظمة التعلم التكيفي، من خلال سلسلة من العمليات المعقدة التي تجري بسلاسة خلف الشاشة، تنتهي بتطوير أنظمة حاسوبية قادرة على أداء مهام تتطلب عادةً ذكاءً بشريًا، فتحدث أثرًا بليغًا في رحلة التعلم، يمكن تلخيص أبرز أدواره فيما يلي:
- التحليل المستمر للبيانات التعليمية
تقوم أنظمة التعلم التكيفية المدعومة بالذكاء الاصطناعي بجمع بيانات مفصلة حول أداء المتعلم: الإجابات، الأخطاء المتكررة، سرعة الحل، الأنشطة المفضلة، وحتى التردد في التفاعل، ومن خلال خوارزميات التعلم الآلي يتم نمذجة المتعلم وإنشاء ملفات تعلم فردية ذكية، وبناءً عليه يتم تصميم تجربة تعليمية خاصة بالمتعلم.
- تخصيص المحتوى التعليمي
استنادًا إلى هذا تحليل ملفات التعلم الفردية، يقوم الذكاء الاصطناعي بتكييف المحتوى والاستراتيجيات والتغذية الراجعة ديناميكيًا مع احتياجات المتعلمين الفردية، فيتم التصميم خصيصًا لكل متعلم بناءً على قدراته ومهاراته: فيختار نوع السؤال المناسب، ويضبط درجة الصعوبة، ويقترح وسائط تعلم بديلة (نص، فيديو، محاكاة، تفاعل…)، ليضمن السير بخطى ثابتة ومحددة في تعلمه الذاتي وتحقيق الفهم العميق بأكثر الطرق ملاءمة لنمط التعلم الفردي الخاص به.
- تقديم تغذية راجعة فورية وذكية
توفر أنظمة التعلم التكيفي الذكية ملاحظات مخصصة في الوقت المناسب للمتعلمين، مثل: إعلام الطالب بصحة إجابته، وتزويده بتغذية فورية بنّاءة، فحين يُصيب يعزز فهمه ويدعمه بأنشطة ذات مستوى أعلى، وحين يُخطئ يقترح عليه أنشطة مساندة، أو يُعيده إلى المفهوم الذي يشكل مصدر اللبس، معتمدًا على تتبع أنماط التفكير الخاصة به، مما يسمح بمراقبة تقدم المتعلم حيث أظهر تطبيق منصات التعلم التكيفية المدعومة بالذكاء الاصطناعي نتائج واعدة في زيادة المشاركة وتحسين نتائج التعلم.
- التنبؤ بالصعوبات قبل وقوعها
الوقاية خيرٌ من العلاج، هكذا تعمل النماذج التنبؤية، حيث يمكن للنظام التعرّف على فجوات التعلم المحتملة التي قد يواجه فيها الطالب صعوبة مستقبلية، ليتدخل المعلم بشكل استباقي بقرارات مدروسة مثل: تصميم الاستراتيجيات التعليمية المناسبة لتلبية الاحتياجات، أو الدروس التمهيدية والتعزيزية، مما يقلل من التعثر ويعزز الدافعية.
- تزويد المعلمين برؤى حول تعلم الطلبة
حيث تقدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي تقارير وتحليلات مفصلة، فتسلط الضوء على الجوانب التي يتفوق فيها الطلبة أو الجوانب التي يواجهون فيها صعوبة، وتحديد الطلبة وتقديم الدعم المناسب لهم.
لماذا نحتاج إلى التعلم التكيفي؟
في الآونة الأخيرة، أضحى تحقيق التعلم التكيفي ضرورة ملحّة، وهذا ما يظهر جليًّا في الأسباب التالية:
- لأن الفروق الفردية حقيقية لا افتراضية: حيث لا يجوز أن نعامل المتعلمين وكأنهم متساوون في الخلفيات، أو القدرات، أو الاهتمامات.
- لأن التعلم الشخصي يعزز المعنى، ويحفّز العقل، ويصون الكرامة الإنسانية؛ فكل طالب يحق له أن يتعلم بطريقة تُنصفه.
- لأننا نعيش في عصر البيانات، ومن الإغفال أن تظل مؤسساتنا التعليمية “عمياء” عن كنوز البيانات المتاحة داخل كل تفاعل تعليمي.
- ولأن المعلم، رغم كل عظمته، لا يستطيع وحده أن يتابع عشرات التلاميذ بدقة متناهية، لكن التكنولوجيا يمكنها أن تسانده وتكمله، لا أن تستبدله.
الفوائد التربوية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في التعلم التكيفي
- تحسين التحصيل الأكاديمي عبر تقديم الدعم الفوري والمناسب لكل طالب حسب حاجته.
- رفع دافعية المتعلم من خلال تجربة تعلم ممتعة، مخصصة، وتفاعلية.
- دعم التعليم المتمايز داخل الفصول، دون الحاجة إلى تقسيم المتعلمين إلى مجموعات ثابتة أو مستويات.
- تمكين المعلم عبر تقارير تحليلية تفصيلية تساعده على التخطيط الدقيق للتدريس.
- تقليص الفاقد التعليمي، من خلال التنبؤ بالتعثر ومعالجته في حينه.
- ترسيخ التعلم العميق، لأن المتعلم يُبني فهمه على خبرة ذات معنى وليست مجرد تلقين.
ومن هنا فإن الجمع بين التعلم التكيفي والذكاء الاصطناعي هو جمعٌ بين النظرية التربوية والابتكار التكنولوجي وهو ما سيجني تحسينات كبيرة في التعليم، حيث توفر أنظمة التعلم التكيفي المدعّمة بالذكاء الاصطناعي محتوىً مخصص يناسب احتياجات وقدرات وميول كل متعلم، في حين يعمل الذكاء الاصطناعي جنبًا إلى جنب في تزويد المعلمين بتغذية مستمرة عن أداء المتعلم أولًا بأول؛ مما يسهم في تحقيق أفضل النتائج الممكنة.
التحديات التي ينبغي مواجهتها بوعي
ورغم هذه الإمكانات الواعدة، فإن توظيف الذكاء الاصطناعي في التعليم ليس طريقًا مفروشًا بالورود، بل تكتنفه تحديات يجب النظر إليها بعين الجدية:
- الخصوصية وأمن البيانات: كيف نضمن أن بيانات الطلاب لا تُستغل تجاريًا أو تنتهك خصوصياتهم؟
- الفجوة الرقمية: كيف نوفر هذه التقنيات للمدارس المحرومة في المناطق النائية أو ذات الدخل المحدود؟
- تأهيل المعلمين: كيف نُعدّ المعلمين ليكونوا قادرين على فهم وتفسير أدوات الذكاء الاصطناعي واستخدامها بطريقة تربوية رشيدة؟
- التوازن بين التكنولوجيا والبعد الإنساني: كيف نمنع التكنولوجيا من أن تصبح بديلاً عن العلاقة التربوية الأصيلة بين المعلم والمتعلم؟
تساؤلاتٌ عدة علينا أخذها بعين الاعتبار، نجيبها، ونضع الخطط الشاملة، لننجح حتمًا في الاستثمار الأكبر للذكاء الاصطناعي في التعلم التكيفي.
ثورة التعليم الذكي
سيشهد التعليم في المستقبل ثورة غير مسبوقة تقودها تقنيات الذكاء الاصطناعي، التي باتت تُعيد تشكيل ملامح العملية التعليمية من الجذور، فلم يعد التعليم محصورًا في قوالب جامدة، بل أصبح أكثر مرونة وذكاءً بفضل أنظمة التعلم التكيفي، وفي هذا المشهد المتطور، يتحول الذكاء الاصطناعي من مجرد أداة تقنية إلى شريك فاعل في صناعة بيئات تعليمية تستجيب لحاجات المتعلمين، وتمنحهم تعليماً يُشبههم، ويكبر معهم.
ومن هنا أقول لقد انتهى زمن “نهج واحد يناسب الجميع”، وأصبحنا في زمن “أعطني تعليمًا يناسب مقاسي”، فأصبح لكل متعلم ما يناسبه من طرق تعلم والتي تميزه عن غيره.
ختامًا: الذكاء الاصطناعي ليس عدوًا… بل حليفًا تربويًا
إن دمج الذكاء الاصطناعي في التعلم التكيفي لا يعني أن “الآلة ستحلّ محل المعلم”، بل تعني أن المعلم سيحظى بأدوات ذكية تُمكنه من التركيز على جوهر مهمته: التوجيه، التحفيز، والاحتضان الإنساني للتعلم، سيظل الإنسان هو القلب والتقنية هي النبض.
إنه ليس استبدال العقل البشري بالخوارزميات، بل تسخير الخوارزميات كي تُنصف العقل البشري، وتمنحه مسارًا تعلميًا يتّسق مع فطرته وإمكاناته.
فالمستقبل لن يكون لتعليم يتجاهل الذكاء الاصطناعي، بل لتعليم يستثمره بوعي تربوي، وعدالة رقمية، ورؤية إنسانية شاملة.
*باحثة ماجستير مناهج وطرق تدريس
المراجع:
المغاوري، تامر. (2017). التعلم التكيفي: (Learning Adaptive) ثورة تعليمية قادمة. كلية التربية، جمهورية مصر العربية.
السيد، محمد. (2024). الذكاء الاصطناعي ومستقبل التعليم. مجلة الذكاء الاصطناعي وأمن المعلومات، 2(3) .
Joshi, MA. (2023). Adaptive learning through artificial intelligence. International Journal of Innovative Research in Science, Engineering & Technology, 4(4).
Akavova, A., Temirkhanova, Z. and Lorsanova, Z.(2023). Adaptive learning and artificial intelligence in the educational space. E3S Web of Conferences, 451. https://doi.org/10.1051/e3sconf/202345106011