أخبار عاجلة

السنّ المُبكّرة، مفتاح التّعلّم

 

باريس- اليونسكو: في الوقت الذي تتسبّب الهجرة المُكثّفة للاجئين في اضطراب نسق تعليم عشرات الآلاف من الأطفال، تدعو الأخصّائية في علوم التربية هيلان أبادزي، التي ساهمت دراساتها في جعل التمكّن من القراءة منذ بداية التعليم الإبتدائي أولوية عالمية من الدرجة الأولى، إلى «تلقيح» مُبكّر للأطفال بواسطة التعلّم قبل سن 18 سنة، لوقايتهم من الأمّية.

هيلان أبادزي

 

في 8 سبتمبر من كلّ سنة، وبمناسبة اليوم العالمي لمحو الأمية، تعود بي الذاكرة إلى النساء الأمّيات اللاتي عرفتهنّ في طفولتي. قبل بضعة عقود، كان اليونان، مسقط رأسي، يعاني من فقر مدقع ومن صراعات عرقية عميقة. إلّا أن المشاكل في مجال التربية التي تسبب فيها ذلك الوضع في تلك الفترة، لا زالت قائمة اليوم.

 

«تلقيح» الأطفال ضدّ الأميّة

 

القراءة هي ثمرة التعلّم بالإدراك الحسّي. أثناء اللحظات الأولى، تكون القراءة منفصلة عن كل استيعاب. بعد ذلك، وبالإستعانة بالتمرين، يصبح الدّماغ قادرا على القيام في الآن نفسه بجمع  الحروف وفكّ رموزها. وتكون العملية ناجعة بما أنه  يتمّ تدريس الرموز منفصلة عن بعضها، مع التأكيد على حالات التشابه في الشكل. ثم، بالتدريب، يتعوّد على جمع وحدات صغيرة من الحروف لتكوين وحدات أكبر. وتوجد أنواع من الحروف ومن أنظمة الكتابة التي تتطلّب وقتا أطول من غيرها. إلّا أنه في كل الثقافات، من فرنسا إلى الصين، يستعمل الناس نفس البنية الدماغية للقراءة.

 

في البداية، يقوم المتعلِّم بفكّ رموز الحروف بشكل منفصل وبكلّ وعي. وبعد عشرات الساعات من التّمرّن، يتحرّك جزء آخر من الدماغ قادر على التعرف على الكلمات كما لو كانت «وجوها بشرية». في ما بعد، مجرّد نظرة خاطفة تكون كافية لقراءة سلسلة من الحروف، مثلما يحصل عند إدراك سِمات الوجه. فتصبح القراءة سهلة وآليّة. وتماما مثلما يتعذر علينا عدم إدراك الأشخاص الذين نعرفهم، لن نتمكّن من التوقّف عن القراءة. وتصل سرعة التعرف على الكلمات إلى ما بين 45 و60 كلمة في الدقيقة.

 

بفضل منهجية التعلّم بالإدراك الحسّي، يمكن للإنسان أن يحفظ التعرّف على بصمة، أو نوتة موسيقية، أو أرقام، أو معادلات رياضية، أو مجموعة كواكب، أو مؤشرات استباقية عن حالة الطقس. ولمّا يتمّ اكتساب هذه المهارة البصرية وبالتمرّن عليها بانتظام، فهي ترسَخ في الذاكرة. وهذا يعني أنه باستطاعتنا «تلقيح» الأطفال ضدّ الأميّة.

 

ومن الغرابة أن لا نحتاج إلى معرفة لغة وإلى حذق كتابتها حتى نتمكّن من قراءتها بفصاحة. ولغايات دينية، يتعلّم ملايين الأطفال عبر العالم قراءة نصوص في لغات يجهلونها ومكتوبة بحروف غير حروف لغتهم الوطنية. إن التعلّم يكون أيسر بكثير إن وُجد تطابق بين الحروف والأصوات، مثلما هو الشأن بالنسبة للإسبانية أو الهندية، على عكس الإنجليزية أو الخميرية التي تتّسم كتابتها بعدم التناسق. ولكي نفهم نصّا لا بدّ من شيء من المرونة، إذ أن حدود الذاكرة قصيرة المدى تفرض السرعة. فالكهل المتعلّم قادر على قراءة ما بين 250 و350 كلمة في الدقيقة.

 

إن الأطفال الذين ينفصلون عن المدرسة بعد أن كانوا قد اكتسبوا آليّة القراءة، هم قادرون على قراءة الكتابات المحيطة بهم وعلى التمرّن بالقدر الكافي للحفاظ على قدرتهم على القراءة وعلى تحسينها : وتلك كانت الحال بالنسبة لمُربّيتي صوفيا. لكن الذين يُغادرون المدرسة قبل تعلّم القراءة بفصاحة، فتهجئة الحروف تبدو لهم مُملّة جدا. وإن مرّوا أمام مُعلّقة أو إسم شارع، قد لا يتمكّنوا من قراءتها، مثلما كان الشأن بالنسبة إلى ماريا وإلى عمّتي.

 

مع الأسف، اكتساب القدرة على قراءة عدد كبير من الرموز بشكل آلي، هو محدود في الزمن. إذ أن بعض المسالك العصبية التي يعبر منها حسّ الإدراك، تمرّ بفترات دقيقة وتصبح بطيئة عند بلوغ سن المراهقة. وإذا انقطعت عملية اكتساب آلية القراءة لعدّة سنوات، يكون الطفل قد  فقد وقتا ثمينا يصعب استدراكه.

 

اكتساب آلية القراءة قبل سن الثامنة عشرة

 

تسببت الهجرة المُكثّفة للاجئين في القرن 21 في أزمة خطيرة في مجال الأمية. لقد انقطعت دراسة العديد من الأطفال في سنّ حاسمة. وعند نقلهم من سوريا إلى اليونان أو إلى ألمانيا، قد يكونوا قد فقدوا القدرة على القراءة الآلية للحروف العربية المعقّدة. وسيكون هذا الإنقطاع حتما نهائيا بالنسبة للبعض منهم. إن الهجرة ليست الخطر الوحيد الذي يُهدد تعلّم الأطفال. فالدول ذات الدخل الضعيف، التي قامت بتوسيع نظمها التعليمية دون معرفة كيفية تعليم التلاميذ في الأوساط الإجتماعية الفقيرة، أصبحت تُنتج جيلا من المتمدرسين الجهلاء. ويزداد الوضع خطورة من جراء استعمال الإنجليزية والفرنسية لأن كتابتهما معقدة، لدرجة أن عددا كبيرا من التلاميذ الأفارقة لا يقدرون، في أحسن الحالات، إلّا على تهجئة بعض الحروف في هاتين اللّغتين. زاول  عدد منهم دروس محو الأمية، عندما أصبحوا كهولا، إلاّ أنه، حسب البنك الدولي، قد فات الأوان  ليتمكّنوا من تطوير الآليات اللّازمة.

 

ولهذه الحقائق المرتبطة بالمجال العصبي أيضا تأثيرات على أهداف التنمية المستدامة. ووفقا للهدف 4.6، يجب على الحكومات أن تعمل، في أفق 2030، على أن يكون كافة الشبان وجزء هام من الكهول، رجالا ونساء، قد تعلّموا القراءة والكتابة والحساب. ولتيسير التعلّم ومساعدة المُدرّسين في هذه المهمّة، لا بدّ من توظيف البحث في العصبية المعرفية.

 

إن تنشيط وظيفة التعلّم بالإدراك لا يتطلّب مناهج تربوية متطوّرة. وعلى المعلمين أن يُدرّسوا التطابق بين الحرف والصوت وأن يزيدوا من التمارين في القسم مع التوضيحات اللازمة. ويُمكّن التمرين العملي من الربط بين الوحدات الصغيرة والوحدات الأكبر، وبين الكلمات والجُمل. لا بدّ من كتب سميكة وغزيرة لتنمية القدرة على التعرّف على «الوجه»، وأن تكون مكتوبة بأحرف غليظة ومتباعدة لتستجيب لمتطلبات الإستيعاب البصري. وما دامت  الكتابة داعمة للقراءة، يجب اكتساب ما يكفي من الكلمات لفهم النصوص. وحيث أن القراءة هي عملية كونية، فإن قراءة 45 إلى 60 كلمة في الدقيقة يُمكن أن تُمثّل معيارا تقريبيّا لقياس آلية القراءة في أغلب اللغات والحروف. ولكي يتعلّم الطفل بالنصوص ويحسّ بلذّة القراءة، يجب أن يبلغ هذه السرعة منذ نهاية السنة الثانية من التعليم الإبتدائي.

 

يتلقى المُتبرّعون والحكومات العديد من النصائح المُحيّرة حول القراءة. فالطرق التقليدية للتعليم حرفا حرفا، وهي أكثر تطابقا مع طريقة اشتغال الدماغ، تمّ تعويضها بأنشطة ترتكز على المقاربة الإجمالية للّغة وهي منهجية تعكس وجهة نظر الطبقات الوسطى. وقد تكون لذلك انعكاسات خطيرة على الفقراء. إن التلاميذ الذين يتعلّمون اللّغات ذات الرسوم المتناسقة، بإمكانهم التطوّر سريعا في القراءة منذ السنة الأولى، و يضلّوا قادرين على المواصلة في حال انقطاعات لاحقة. وهو ما كانت تتيحه كتب القراءة القديمة. لكن إدخال الطرق «الحديثة» تسبب في بطء هذه العملية، مما جعل التلاميذ عرضة لتقلبات الحياة ولخطر الوقوع في الأمية.

 

يُذكّرنا اليوم العالمي لمحو الأمية بأنه من واجبنا تأمين آلية القراءة منذ الطفولة. لأن هذه الوظيفة لها حدّ زمني: عند بلوغ سن 18 سنة، على أقصى تقدير، يجب على كل الأطفال أن يكونوا قادرين على القراءة بفصاحة في لغة واحدة أو أكثر. وإن كان من المحتمل في المستقبل، أن تخفف البحوث في مجال الطب الحيوي من هذه الظاهرة العصبية، إلّا أن الهدف، في أفق 2030، يبقى واضحا. فالحروب وتنقّل الأشخاص مُرتبطة بالتطوّر البشري، وعلى سلك المُربّين إذا أن يكون على استعداد لذلك. وعلى المُتطوّعين والحكومات أن يستغلّوا البحوث المُتوفّرة حتى يتحقق اكتساب آلية القراءة منذ السنة الأولى، وفي حال الإنقطاع عن الدراسة بسبب وضعية طارئة، يُضمن للكهول مستقبل مثيل لمستقبل صوفيا، لا لماريا.

هيلان أبادزي

هيلان أبادزي عالمة نفسانية يونانية، باحثة في جامعة تكساس-أرلنغتن. عملت لمدة 27 سنة كاخصّائية رئيسيّة في التربية لدى البنك الدولي واعتمدت على السيكولوجيا المعرفية وعلى علوم الأعصاب لتحسين نتائج الإستثمارات في مجالات التربية. ومنذ 2015، أصبحت  هيلان أبادزي واحدة من الأعضاء الخمسة للجنة تحكيم جوائز اليونسكو الدولية للتعلّم، وقد ترأّست اللجنة من سنة 2016 إلى حزيران 2017

عن mcg

شاهد أيضاً

المرصد الجامعي للحقوق يوجه رسالة إلى جنبلاط: ما نحتاجه هو إلغاء عقد الذل

بوابة التربية: وجهت الدكتور نور عبيد باسم المرصد الجامعي للحقوق رسالة مفتوحة إلى رئيس الحزب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *