Breaking News

النّبطيّة يراع مقيم وشراع مغترب

بوابة التربية- كتب د. يونس محمّد علي زلزلي:

تنبسط النّبطيّة سهلةً دمثة، فتتّسع بالعمارة والتّجارة والتّربية كأنّها مدينة، لكنّها تنطوي على عاداتها وتقاليدها تحضنها في الإحياء والأحياء، بما يجعلها أقرب إلى القرية. تنفتح أمام قاصديها لعبةً في حيّ البيّاض وعمارات اغتراب جعلته “حارة أفريقيا”، وكتابًا في حيّ الجامعات، وكرةً مستديرةً وملعبًا أثيرًا في تلّة كفرجوز؛ لكنّها قبل ذلك كلّه هي ساحة عاشوراء التي ما برحت تؤرّخ زمانها وتورث إنسانها الحسينيّة مبنًى ومعنًى وفي كلّ حين. من أيّ الجهات أدخل إلى النّبطيّة؟ أأدخل إليها من حروفِ اسمِها المقدودِ من صخورِ أنباطِها القادمينَ من مدينةِ البتراء، أم أدخلُ إليها من دلالةِ الفعلِ إلى انبجاسَ الماء؟ وهلِ اقترانُ الصّخرِ بالماءِ في إسمِ النّبطيّة إلّا حقيقةُ هذه المدينةِ العاتية على العادي، والرّفيقة بالرّائح والغادي أينما نزل في أهلِها ومحلِّها.
وإنْ كانتِ النّبطيّة توأمَ البتراء، فهي الشّقيفُ الذي لا يَهْرَمُ بتقادمِ الزّمان، وإن كانتِ النّبطيّة انبجاسَ الماء، فهي عيْنُ الثّقافةِ وبحرُها الزّاخر، والشّراع الذي يرتادُ بنا آفاقَ الحياةِ الواسعة، من مدرستِها الأولى والسّيّد حسن بن السّيّد يوسف الحبّوشيّ، إلى حُسَينيّتِها الأولى في العام 1909 والعالِم الشّيخ والشّاعر عبد الحسين صادق الخياميّ، بمعيّة ابراهيم الميرزا الإيرانيّ. في النّبطيّة نفتحُ عيونَنا على تاريخ جبلِ عامل في مدوّنة محمّد جابر آلْ صفا، فنقرأ صَفَحاتٍ وصَفَحاتٍ عن مدينةٍ رائدةٍ وسبّاقةٍ إلى العلمِ والأدبِ والإيمان، وأَعلامُها نورٌ على نور في فضاءِ الوطنِ والعالَم من المجمّع العلميّ في دمشق إلى مغتربات الجهات الأربع، وطليعتهم الباهرة حسن كامل الصّبّاح والشّيخ سليمان ضاهر والشّيخ أحمد رضا والسّيّد عبد الحسين نور الدّين.
في هذه الأرض يَشِعُّ الوفاءُ، وتَحُطُّ في التّرابِ شواهدُ الشّهداء بيدرًا نُخَبِّئُهُ لأيّامِنا العِجاف، ونَخُطُّ في الكتابِ قصائدَ الشّعراءِ كوثرًا نستقيه في مواسمِ الجفاف، ثمّ نزيّن مدى الأعمار والأبصار بلوحات مُحتَرَفِ الفنّان زَعَل سلّوم، ونقتفي أثرَ ديكِ الخطّاطين علي بدر الدّين ينبُشُ الطُّرُقَ والحقولَ، ليرسُمَ عليها خطوطَه، ونستعيدُ ياسر بدر الدّين وفَرِيحة الحاج علي وعادل الصّبّاح ونادي الشّقيف والمجلس الثّقافيّ للبنان الجنوبيّ وكلَّ فرسانِ المعبدِ الثّقافيّ النّبطانيّ، لأنّ العصافيرَ لا تموتُ في النّبطيّة.
وها نحنُ في مدينةِ النّبطيّة، نُنْشِدُ ليديْنِ من حجرٍ وقبضة ومقبض سيف، نتقمّصُ أرواح الشّهداء، فنقفُ مع سهيل حمّورة بمواجهة الاحتلال في عاشوراء النّبطيّة، لنصرخَ مع حسن كحَيْل: لن يُسْتَشْهَدَ الحُسين، وفينا قلوبٌ بِلَوْنِ بنفسجِ البلادِ وبسملةِ النّدى، وفينا إرادةُ شعبٍ ينتمي لأرضِه وسمائِه وللفقراءِ في كلّ مكانٍ وزمان.
في النّبطيّة، شعبٌ لا يموت، ولا ينقسم، ولا تنفصمُ أواصرُ المحبّةِ والخيرِ في قلوبِ أبنائه. وأهل النّبطيّة صورةُ لبنانَ النّقيِّ بتربيتِه، والقويِّ بإيمانِه، والبهيِّ بعيشِه الواحد، حيث يجتمع النادي الحسيني بكنيسة النّبطيّة في عيد البشارة، مثلما يجاور مُصَلّى عيسى ابنِ مريمَ كنيسةِ سيّدةِ الانتقال، ويطلّ دير مار انطونيوس على حسينيّة عاشوراء. في النّبطيّة وجوهِ نَيِّرَةِ وحكايات، أجملها لقاء الأب نقولا الصّائغ بالشّيخ محمّد تقي صادق ، يرتقيانِ بالمدينةِ لتصيرَ واحةً للحبّ ومساحةً للإيمانِ الأصيل. وطلّاب طليعتهم الطّبيب وديع الغَفَري، والمعلّمِ اللامع أنطون الصّائغ مدير المدرسة التّكميليّة في النّبطيّة والمفتّش التّربويّ الذي جمعَ في وفاتِه في أيلول من العام 1964 وجوهَ لبنانَ الحضارة والإنسان من فؤاد البستاني رئيس الجامعة اللبنانيّةِ الأوّل إلى العلّامة الشّيخ عبد الله العلايلي إلى إمام الوطنِ القائدِ المغيّب السّيّد موسى الصّدر الذي قال يومَها: لا تقتصرُ العبادةُ على الصّلاة في المسجدِ والكنيسة، فالتّعليمُ عبادة والتّثقيفُ عبادة…ولم يكن أنطون الصّائغ وحيدًا، ففي ذلك الحين كان جواد صيداوي يؤسّس ويديرُ أوّلَ ثانويّةٍ رسميّةٍ في النّبطيّة هي ثانويّة حسن كامل الصّبّاح اليوم، وكان دار المعلّمين يعدُّ أساتذةَ الجنوب في التّعليم الرّسميّ. ولعلّ التّربيةَ تبقى صناعةَ النّبطيّة الأثيرة منذ انطلاقةِ المقاصد في مطلع القرنِ الماضي، تليها أمُّ المدارس بمديرِها المرحوم عبد اللطيف فيّاض في العام 1919 إلى تكميليّة الصّبيان في العام 1948 بمديرِها الرّاحل سميح دخيل شاهين، فمتوسّطةِ البناتِ الرّسميّة بإدارة المرحومة فريحة الحاج علي في العام 1951، يلاقيهم روّادٌ ميامين في التّعليم الخاصّ من ميس ويلسون وغرفة القراءةِ الانجيليّة، فمدرسة الأمريكان، التي أصبحت المدرسة الانجيليّةَ الوطنيّة، إلى مدرسة الرّاهبات الأنطونيّات بإدارة الأخت ماتيلدا أبو جودة في العام 1953. لقد جعل هؤلاء الأعلام النّبطيّة قصرَ العلم، ومدرسة المدارس، وملتقى الجامعات، وأمَّ التّربية الرّؤوم التي يتّسعُ حضنُها للوافدين عامًا بعدَ عام، وجيلًا بعدَ جيل ينهلون العلمَ ويسلكون طريقَ المجد، يدأبونَ ولا يتعبون بطموحٍ لا ينطوي، بل يطوون به العالَمَ الأكبر.
هي صفحاتٌ من كتاب النّبطيّة المفتوح منذ أن كان وإلى منتهى ما سيكون على ديمومة الحُسن وخلود الحسين وقيم الحقّ والخير ومقام العشق والجمال.

 

About tarbiagate

Check Also

مدارس المبرّات تُطلق فعاليات أسبوع المطالعة الخامس عشر

بوابة التربية:  افتتحت مدارس المبرّات أسبوع المطالعة الخامس عشر تحت عنوان “نقرأ ونتحدى في رحاب …

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *