
بوابة التربية- كتبت مريم يوسف الصلح:
تذكرتُ إحدى العبارات لأحد المسؤولين التربويين مفادها ان التربيه سياسة، فأين هي من تلك المعمعة؟
ليست التربية حِصصَ حفظٍ وجدرانَ صمت، بل هي ساحةُ تنامي العقل والروح، وورشةُ بناء الإنسان الذي سيشارك في حكم وطنه وغدِه. فهي الفعلُ السياسيُّ الأكثرُ خطورةً واستراتيجية، لأنها تُمسك بمفتاح المستقبل. فإذا كانت التربية سياسة، فأين يقف المُربّون في خريطة هذه السياسة؟ وهل يُحرَمون من حقوقهم بفعلِ سوءِ تدبيرٍ مالي، أم بقرارٍ سياسيٍّ صميم؟
-الاستاذ المُنهَك.. استراتيجية سياسيةٌ مُتعمَّدة
إنَّ حرمان الأساتذة من حقوقهم ليس ثغرةً إدارية، بل هو أداةُ ضبطٍ سياسيٍ مُحكمة. إنها هندسةٌ دقيقةٌ لإنتاجِ الإخضاع والاستسلام:
*خوفٌ ممنوعٌ من التفكير: عندما يُحاصر الأستاذ بهمّ الراتب المتأخر والقوت الضيق، تُختَزَلُ همومه من “كيف أُفكِّرَ بتلاميذي” إلى “كيف أُفكِّرَ بقوتِ عائلتي”. هنا يتحوَّل الحارسُ على شعلةِ العقل إلى سجينٍ لشعلةِ البقاء.
*إسقاطُ الهيبة لبناءِ الطاعة: إنَّ إضعافَ مكانةِ المُعلِّمِ اجتماعيًّا وماديًّا هو إسقاطٌ متعمَّدٌ لسلطته الأخلاقية. طالبٌ لا يحترمُ مُعلِّمَه الفقيرَ المُهان، لن يتعلَّم منه دروسَ الكرامةِ والحرية. وتُصبح التفرقةُ والاستقطابُ بين المُربِّين أداةً لتفريق صفوفهم، وتحويلِ نقابتهم من قوةٍ مطالبةٍ إلى أداةٍ تابعة.
– الرسالةُ المسمومة: يُرسلُ الحرمانُ رسائلَ واضحةً إلى المجتمع كله:
– رسالةٌ للطلاب: انظروا، حاملُ العلمِ والمعرفةِ لا يُطعمُ أبناءَه كرامةً. فاطلبوا الوظائفَ التي تملأ الجيوبَ، لا العقولَ.
– رسالةٌ للمسؤولين والسياسيين: “الجسمُ الفكريُّ” المُنهَكُ لا يخشاه أحد. فهو مشغولٌ بملاحقةِ قروضهِ، لا بملاحقةِ أسئلةِ الحكمِ والعدالة.
– سيمفونية الأرقام الزائفة وتضخم الوظائف الوهمية
إنَّ مشهدَ البيروقراطيةِ التربويةِ المتضخمةِ، حيث يفوق عددُ الموظفين أحيانًا عددَ الطلاب، ليس فشلًا إداريًّا، بل هو آليةُ إفسادٍ وتبرير:
– سيناريو “البيروقراطية مقابل التعليم”: يُقدَّم هذا المشهدُ على أنه “عبءٌ ماليٌّ” لا يُطاق، فيُستخدم ذريعةً لتجميدِ حقوقِ المُربِّين الحقيقيين تحت شعار “لا يوجد مال”. بينما تُسرَقُ الثروةُ في متاهةِ المكاتبِ والوظائفِ الوهمية.
– وهميةُ الوظائف وخرافةُ الرواتب الخيالية: من أين تأتي أموالُ الرواتبِ الخياليةِ لموظفينَ لا يُرى لهم أثرٌ في الميدان؟ ومن يُمِدُّ شبكةَ “الوظائفِ الوهميةِ” المُوزَّعةِ على زعماءِ الطوائفِ كحصصٍ سياسيةٍ؟ إنها اقتصادياتُ الريعِ والفساد، التي تختارُ إثراءَ الولاءاتِ السياسيةِ والطائفيةِ على حسابِ إثراءِ العقولِ في الصفوف.
– المعادلةُ المقلوبة: إنها سياسةُ “إفقارِ الميدانِ إثراءً للإدارة”، و”تجويعِ المُربِّي لإشباعِ الزعيم السياسي”. فتتحوَّل الوزارةُ من مؤسسةٍ لخدمةِ التعليمِ إلى سوقٍ للمحاصصةِ وتقاسمِ الغنائم.
من المربي إلى الناقل الآلي – اغتيالٌ للتربية
هذا الحرمانُ الممنهجُ لا يسرقُ من الأساتذةِ حقوقَهم الماديةَ فقط، بل يسرقُ من الأمةِ جوهرَ التربية:
– تحويلُ المربي إلى “ناقلٍ للمقرر”: الأستاذُ المُنهَكُ يُحوَّل من مُحرِّرٍ للعقول إلى موظفٍ ينفذُ تعليماتٍ. تصبحُ غايتُه إنهاءَ المقررِ واجتيازَ الامتحان، لا بناءَ الإنسان. وهذا هو بالضبطِ ما تريدهُ أنظمةُ التلقين: تنفيذيّونَ يخدمونَ، لا مفكِّرينَ يَسألون.
– غيابُ النموذج: يحرمُ الطالبُ من رؤيةِ نموذجِ المثقفِ الواعي الذي يطالبُ بحقِّه بكرامة. فيتربَّى على أنَّ المطالبةَ بالحقِّ عيبٌ، وأنَّ القناعةَ بالظلمِ فضيلة.
– إفراغُ المدرسة من روحها: تتحوَّل المدرسةُ إلى مصنعٍ لتكديسِ المعلومات، ومُجرَّدِ ممرٍّ نحو شهادةٍ، بعد أن كانت مشغلاً لإعداد المواطنِ الحر.
المعركةُ التربويةُ هي معركةُ الوجود
نضالُ الأساتذةِ من أجلِ رواتبِهم ليسَ نضالاً نقابيًّا ضيّقًا. إنه قلبُ المعركةِ السياسيةِ والثقافية للأمة. فهو يطرحُ الأسئلةَ المصيرية:من يتحكَّمُ في ثروةِ المعرفةِ، وهل يُقاسُ بناءُ العقولِ كبناءِ الطرقات؟ من يحددُ قيمةَ من يبني الأجيالَ ويُشكِّلُ المستقبلَ؟
أين تذهبُ أولوياتُ الإنفاقِ العام: إلى ترفِ البيروقراطيةِ وشراءِ الذمم، أم إلى استثمارِ العقولِ التي تبني الوطن؟
الإجاباتُ سياسيةٌ صِرفة، وتكشفُ عن رؤيةِ النظامِ لمستقبلِه: هل يريدُ مواطنينَ أحرارًا يُفكِّرون، أم رعايا مُنقادينَ يصمتون؟
الدفاعُ عن حقوق المُربِّي ليس شفقةً، بل حربٌ على التجهيل.
والوقوفُ مع الأستاذِ المسلوب حقه ليس عاطفةً، بل صيانةٌ لأخرِ حصنٍ يقي الأمةَ من ظلامِ الخضوع.
فمتى يستقيمُ سُلَّمُ الرواتبِ المعكوس، تستقيمُ في الصفوفِ بداياتُ التحرر.
فنحن حملة الأقلام وبناة العقول، لن نكون أحرارًا إلا بتحرير إرادتنا، فكرنا هو سلاحنا، واتحادنا هو درعنا.
بوابة التربية – Tarbia gate بوابة التربية – Tarbia gate