أخبار عاجلة

مدرسة المرحوم السيد يونس حسن زلزلي والتعليم في جبل عامل

مدرسة الكتاب

بوابة التربية- كتب محمّد علي يونس زلزلي:

المدرسة الأولى (الكِتَّاب)- قبل الحديث عن المدارس الأولى أو الكتاتيب (جمع كِتّاب)، التي كانت منتشرةً في بعض مدن وقرى جبل عامل، لا بدّ من تسليط الضوء على سوء الأوضاع وانتشار الظلم والفقر والجهل في بلادنا، حيث كان الأتراك قد بلغوا مرحلةً من الضعف أصبحوا معها عاجزين عن بسط سيطرتهم على امبراطورية مترامية الأطراف، وبوسائل بدائيّة؛ ممّا شجّع الدول الأوروبيّة على التدخّل بعد الفتن والأحداث الطائفية في الجبل بحجّة مناصرة هذه الطائفة أو تلك. لكنّ الهدف المباشر كان اقتسام الولايات التركية للحلول مكانها.

لذلك، نشطت الإرساليات أو البعثات الأجنبية، وبدأت بفتح المدارس في جبل لبنان ثمّ في بيروت واستقبلت طالبي العلم من العائلات الميسورة ليس رغبةً بتعليم اللبنانيين، بل ليصبح خرّيجو هذه المدارس فيما بعد عونًا لهم على نشر عاداتهم ولغاتهم وسياساتهم، وليتمكنّوا من خلالهم من بسط سيطرتهم على بلادنا. وهكذا، ما إن انتهت الحرب العالميّة تقاسمت فرنسا وبريطانيا المنطقة بموجب معاهدة سايكس بيكو؛ فوقع لبنان وسوريا تحت الإنتداب الفرنسي، والعراق والأردن وفلسطين تحت الإنتداب البريطاني.

لم تكن الأوضاع في بلادنا بأفضل ممّا كانت عليه، جهل وفقر وأمّيّة وحرمان شامل تعاني منه مناطق الجنوب والبقاع والشّمال. فخلال هذه الفترة الممتدّة من 1800 إلى 1943م كان الإقطاعيون يسلبون الناس أتعابهم ولقمة عيشهم ليسترضوا أسيادهم. في ظلّ هذه الأوضاع كان هناك بصيص أمل أضاء هذه العتمة، وتمثّل بقيام بعض المتنوّرين من العلماء والمتعلّمين بفتح المدارس الدّينية (الحوزات) والمدارس التي تعلّم مبادئ القراءة والكتابة وتسمّى الكتاتيب حرصًا منهم على نشر العلم والحفاظ على الدين، لأنّ الدولة كانت غائبة سواء أيّام الأتراك، أو أيّام الإنتداب الفرنسي.

– المدارس الدينية:

كان دورها كبيرًا في بعث النهضة ونشر العلم في جبل عامل على الرّغم من تضييق الأتراك، لأنّ العلم برأيهم ينشر الوعي، والوعي يدفع النّاس إلى التّحرّر من سلطة الأجنبي. ومن أشهر هذه المدارس:

أ‌- مدرسة جزّين: تأسست على يدي الشهيد الأوّل محمّد بن مكّي في العام  1370م، وانتهت بعد خروج الشيعة من جزّين في إثر صراعات مع الدروز في العام 1757م.

ب‌- مدرسة ميس الجبل: أسّسها علي بن عبد العالي الميسي (المحقّق الميسي).

ت‌- مدرسة شقراء: وقد استفادت من حالة الهدوء بعد نهاية أحمد باشا الجزّار.

ث‌- مدرسة جويا: أنشأها الشيخ محمد علي خاتون وكانت تسمّى (الخاتونية).

ج‌- مدرسة جبع: خرّجت كبار العلماء كالشّهيد الثاني الشيخ زين الدين.

ح‌- مدرسة الكوثرية: تأسّست في العام 1840م، وتخرّج منها كبار العلماء كالشيخ محمد علي عزّالدين مؤسّس مدرسة حناويه.

وكان العلماء من خرّيجي هذه المدارس يضطرون للهجرة إلى العراق أو إلى إيران في أيّام الصفويين لمتابعة تحصيلهم، أو للتدريس، أو هربًا من ظلم المستعمرين.  نشأت بفعل ذلك نهضة علمية وبإمكانات محدودة لا تشبه واقع  المناطق اللبنانية الأخرى التي كانت تنعم بنشاطات البعثات الأجنبية، لا سيّما بيروت وجبل لبنان.

– دور الكتاتيب في المجال العلمي:

الكِتّاب هو المدرسة الأولى التي كان يديرها معلّمٌ واحد. حتّى أوائل القرن العشرين لم يكن في معظم قرى جبل عامل مدرسة بالمعنى المتعارف عليه اليوم. لهذا كانت الكتاتيب ما تزال تؤدّي دورها التعليمي الذي بدأته من قبل بجهودٍ ذاتية محدودة حيث تستقبل أبناء العائلات الفقيرة من القرى المجاورة. واعتمدت معظم هذه الكتاتيب على تعليم القراءة والكتابة ومبادئ الحساب وتجويد القرآن، في وقتِ كان كثيرٌ من الأهالي يتهرّبون من تعليم أبنائهم لا سيّما الفتيات منهم خوفًا على سمعتهنّ ومستقبلهنّ إذا أحسنّ الكتابة والقراءة، وانفتحن على الآخرين. وكانت أهمّ الكتاتيب في النبطيّة وبنت جبيل وشقراء وعيناثا ومعركة وديركيفا والشهابية وطيردبّا والعباسية وديرقانون النهر، وفي كلٍّ منها عدة كتاتيب.

– كتاتيب ديرقانون النهر:

أنشأ المدرسة الأولى (الكِتّاب) شيخٌ من دبعال من آل العطّار، ثمّ كانت مدرسة الشيخ سليمان عزالدين، والحاج محمد علي حريري (أبو إبراهيم)، ثمّ مدرسة السيدة فاطمة الشيخ شحادة غسّاني، ثمّ مدرسة السيد يونس حسن زلزلي التي تزامنت مع افتتاح المدرسة الرسمية في البلدة بصفوفها الإبتدائية الثلاثة، وكان يديرها الأستاذ جعفر عزالدين ومن بعده الأستاذان حسين عزالدين (أبو سليم)، وإبراهيم حمادة (من الدّوير).

المرحوم السيد يونس حسن زلزلي

– مدرسة السيد يونس حسن زلزلي:

استمرّت من العام 1948 إلى العام 1968م.

– نبذة عن حياته:

ولد في العام 1902 وتوفيّ في العام 1977م. كان منذ ولادته محدودب الظهر مع إعاقة في قدميه، يمشي مستعينًا بعكّاز. آثر والده أن يعلّمه القراءة والكتابة؛ فكان يحمله إلى المدرسة ذهابًا وإيابًا ليغنيه عن حاجة الناس. وعندما شبّ تعلّم صناعة الأحذية على يد الحاج محمود عبد الجليل وعمل معه لسنوات في المهنة في محلٍّ كان قائمًا على تلّةٍ بين منزليهما المتجاورين في المكان الذي أقيم عليه منزل أبو علي حسن عزالدين وملحمته في وقت لاحق(ساحة ديرقانون النّهر). ثمّ اشترى لاحقًا قطعة أرض وبنى عليها بيتًا من غرفتين واسعتين، إحداهما جعلها مدرسة، والثانية للسّكن (الطّابق الأرضيّ من بيتنا الحالي)، وحفر بئرًا لتجميع المياه كما كانت معظم بيوت القرية قبل وصول شبكة المياه إليها.

– نظام المدرسة ودوامها:

كانت المدرسة تستقبل الطلاّب من البلدة ومن القرى المجاورة (الحلوسيّة وبدياس وجناتا وطورا). وكان عددهم يصل إلى 35 طالبًا أحيانًا يأتون سيرًا على الأقدام حاملين لوازمهم في حقائب (شنط) من قماش تُعَلّق بالكتف، ويجلسون على حصيرٍ من البابير أو من القش. العطلة الأسبوعية كانت يوم الجمعة مع تعطيل الدّراسة أيّام الأعياد الدّينيّة والعاشر من محرّم. وكانت الدّراسة تُعَطَّل ليوم واحد عند وفاة أحد أبناء القرية؛ ففي ذلك الحين، كانت حالات الوفاة قليلة لقلّة السكّان، وكانت المشاركة وعلاقات القربى والتّضامن بين النّاس موضع اهتمام وتقدير، يحمل الواحد من أبناء القرية هَمّ الآخر، ويتعاون الجميع في السرّاء والضرّاء.

أمّا الدوام، فكان يبدأ من شروق الشّمس إلى ما قبل غروبها بقليل، يتخلّل الدّوام فرصة لتناول طعام الغداء لمدّة ساعة أو أكثر. وكان أبناء القرى المجاورة يبسطون زادهم ويأكلون بجوٍّ من الألفة والفرح. وعند الانصراف مساءً، كانوا يخرجون قبل الآخرين بنصف ساعة. كذلك في أيّام الشتاء، عندما تتلبّد الغيوم وتنذر بالمطر، كان المعلّم يشير إلى الطلاّب بالانصراف قبل انتهاء الدوام. وتحديد وقت الغداء كان يتمّ بمراقبة الظِّلّ عند عتبة الباب.

– الانتساب إلى المدرسة:

كان الأهل يأتون بابنهم إلى المدرسة، ويعطون المعلّم تفويضًا كاملًا باستعمال الشدّة قائلين: (اللحم لك ولنا الجلد والعظم). وهذا كان كافيًا ليشعر الطالب بالرهبة والمسؤولية، لأنّه إذا خرج على المألوف لن يجد له في البيت من يغطّي تقصيره وهفواته. أمّا إذا أراد الطالب أن يقضي حاجته، فيطلب الإذن (الدستور) ويخرج إلى حقلٍ قريب. وإذا أراد أن يشرب، يخرج ليجد إبريق الفخّار في قناةٍ تشكّل امتدادًا لمزراب السَّطح (السيّالة)، فيعمد الطَّالب إلى ملء الإبريق من البئر بواسطة حبلٍ حتى لو لم يكن فارغًا، ليكسب الوقت. أمّا المعلّم، فكان يجلس على كرسي وأمامه طاولةٌ فوقها لوازمه، وكان يلبس شروالًا عربيًّا، وحول خصره يلفّ (الشّملة)، ويعتمر على رأسه طربوشًا يلفّ حوله عمّةً خضراء ترمز إلى انتمائه إلى السّادة (النَسب الشّريف)، وإلى جانبه عددٌ من قضبان الرّمّان تختلف من حيث الطّول، وغالبًا ما يأتي بها الطّلاّب، لينالوا رضى معلّمهم. وغالبًا ما كان القصاص شديدًا للمقصّرين والمشاغبين، بينما لم يطل كثيرًا منهم؛ إذ تكفي كلمةٌ أو نظرة، ليعودوا إلى الصّراط.

وقد كنت أسمع بعقوبة الفلقة، لكنّي لم أرَ أنّها طُبِّقَت في مدرسة السيّد، فلم تكن عنده إلّا مادّةً للتّخويف، ليس إلاّ. وممّا أذكره، أنّ بعض الطلاّب كانوا أحيانًا يشيرون إليّ بالدّخول والجلوس بقربهم، وما أن أفعل، حتّى ينادي الوالد ويدعوني للخروج، وإذا بقضيب الرّمّان يطالني ملوّحًا بالعقاب. وأورد هنا أسماء بعض الذين تعلّموا في مدرسة السيد:

الحاج محمود قصير (أبو بسّام)-السيد أحمد عبد الجليل (أبو مالك)-نمر غساني وأخوه المرحوم اسماعيل-علي شبيب عوالي (أبو جلال) من البلدة. وأحمد محمد قعفراني وأخوه زاهي-فوزي قعفراني-علي عبد الرضا قعفراني-الحاج حسين علي قاسم وأخوه حسن من بدياس. محمد وعبد الله ابراهيم عجمي-حسين عياد من الحلوسية.

– مناهج التّدريس وطرائقه:

يُسَلَّم الطّالب حين التحاقه بالمدرسة ورقةً مكتوبةً عليها الأحرف الأبجدية. يبدأ المعلّم بتعليمه الحروف، وينتقل إلى توضيح النّقاط مثلاً: أ- لا شيء عليه، ب- واحدة من تحت، ت- اثنتان من فوق، ث- ثلاثة من فوق، ح- لا شيء عليه، ي- اثنتان من تحت، أي نقطتان. (لا شيء كانت تُلْفَظ لا شٍ). وهكذا…ثمّ يأتي دور التّشكيل: أَ: فتحة  إِ: كسرة، أُ: ضمّة، اً: ألف فتحتان، اٍ: كسرتان، اٌ: ضمّتان. ثمّ ينتقل بعدها إلى تعليم المبتدئين الأحرف الأبجدية مركّبةً مع تشكيل: أبجد: ألف فتحة، ب سكون أبْ، ج: فتحة: أبجْ، د: سكون… أبجد. هوّز-حُطّي-كلمن-سعفص-قُرِشت-ثخذٌ-ضظغٌ… يتابع الطالب تعلّمها مستعينًا بمعلّمه وأحيانًا برفاقه. بعد التعرّف إلى قراءة الأحرف مفردةً ومركّبة ومُشَكَّلة، يتسلّم كتاب القراءة أو (الحرفيّة)، فتبدأ الدّروس بالحروف والصّور ثمّ بالكلمات، وبعدها بمقاطع قصيرة. ثمّ ينتقل الطالب من درسٍ أنجزه إلى آخر حتى يختم الحرفيّة، ويصبح مؤهلًا لتسلّم جزء “عمّ”. وكلّما قرأ سورةً أمام المعلّم قراءةً صحيحة، يسمح له بالانتقال إلى سواها. وتترافق عملية القراءة مع الكتابة، ولكلّ عملٍ وقتٌ مخصّص. والكتابة تكون بمستوى ما بلغه الطّالب في القراءة. تستمرّ عملية التعلّم حتّى يختم القرآن الكريم. ويأتي يوم ختم القرآن بمثابة حفل تخرّج، فيرتدي الطالب ثيابًا جديدة، ويبدأ بقراءة سورة البقرة، ورفاقه يحيطون به مبتهجين. وما أن يقرأ (ختم الله على قلوبهم) تعلو صيحات رفاقه، ويخرجون معه في موكبٍ إلى البيت حاملين قطعة قماش وينشدون أناشيد للمناسبة. وبوصولهم إلى البيت، يستقبلهم أهل الطّالب، ويملأون قطعة القماش بالحلوى. ثم يعود الطّلّاب إلى المدرسة لتقاسم الحلوى مع زملائهم. يتفرّغ الطالب بعد ذلك لإتقان عملية الكتابة، وكانت بالرّيشة أو بقلم الحبر السَّائل. ولم تكن أقلام الحبر النَّاشف معروفةً بعد. وبعد الكتابة، يتعلّم مبادئ الحساب (جمع- طرح- ضرب- قسمة). يتولّى الطلاّب الّذين قطعوا مرحلةً مهمّة من التعلّم مساعدة معلّمهم لتعليم رفاقهم. قبل انتهاء الدّوام بساعة تقريبًا، كان المعلّم ينادي الطّلّاب الذين أصبحوا  في مرحلةٍ متقدّمة من الكتابة(للجمع)، وكان يسمّيهم (الكِتّابة). يجلسون حوله حاملين دفاترهم وأقلامهم، فيملي عليهم نصًّا من شعرٍ أو نثر

من كتابٍ أمامه. وعندما ينجزون ما أملاه عليهم، يصحّح لهم كتاباتهم. فيعيد من أخطأ منهم نسخ الكلمة موضع الخطأ مرّاتٍ عديدة. وقد عرِفْتُ فيما بعد، أنّ الجمع يعني في اللغة الكتابة أو جمع الأحرف. والطّالب الّذي يتمكّن من القراءة والكتابة والحساب يقال عنه (جمع الحرف)، أي أصبح متعلّمًا وبإمكانه مساعدة أهله أو الذّهاب إلى المدينة بحثًا عن عمل. وما ينطبق على مدرسة السيّد يونس حسن زلزلي ربّما كان ينطبق على بقية المدارس أو الكتاتيب في ذلك الزّمان، لأنّ الظّروف المعيشة كانت واحدة، ولا يمكن أن نقيس على ما نحن فيه اليوم من تطوّرٍ في العلوم وانفتاح بين الحضارات وتعدّد في مجالات الإختصاص. مع الإشارة إلى أنّ المعلّم في ذلك الحين كان يكتب الرّسائل لأهل القرية، ويقرأ لهم الرّدود (من أبنائهم المسافرين)، ويَسْتَشار في الأمور المهمّة. وكان المعلّم ممّن يحسنون الكتابة بخطٍّ جميل.

توخيّت الموضوعيّة في كتابة هذا النّصّ عن والدي السّيّد يونس حسن زلزلي ومدرسته، والله من وراء القصد.

 

عن tarbiagate

شاهد أيضاً

الهيئة الوطنية للعلوم تفتتح غدا مباراة العلوم 2024 برعاية ميقاتي

بوابة التربية: دعت الهيئة الوطنية للعلوم والبحوث لحضور الفعاليات السنوية الحادية والعشرين من مباراة العلوم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *