أخبار عاجلة

العصر الرقمي ومآل الهويّة والمواطنة بين حدّي النزوع الواقعي وحراك الافتراضي 

بوابة التربية- كتب * د. حسين عبيد:

مع أهميّة الحراك الرقمي، وما حملته التكنولوجيا من انفجار معرفي وعلمي…. وسهولة في التواصل، أضحى العالم معها منزلًا كونيًّا… إلّا أنّ هذا لا يعني العزوف عن تناول فلسفة ما يعرف بالعصر الرقمي، التي توجّت في المقولة التي ساقها رجل الأعمال الأميركي، تشارلز كيترينج Charles Kettering، حيث يقول: “حريّ بنا أن نهتمّ بالمستقبل، لأنّه زمن سنقضي فيه ما تبقى من حياتنا”، ما يعني إحداث قطيعة الماضي والحاضر، مع المستقبل، في العصر الافتراضي، الذي تهيمن فيه لغة الأرقام عبر الوسائط التكنولوجيّة بمختلف أدواتها ووسائلها، وهو ما يحفزنا عن مقصود هذا القول، هل يعني ذلك إقصاء الذاكرة والخيال، وقطع التاريخ، بخلاف مأنوس السنن والنواميس الطبيعيّة منها والبشريّة؟ وأين نحن من الزمن، وما ينطوي فيه من سيرورة الكينونة الذاتيّة والوحدة الكونيّة والوجوديّة؟ وهو يدفعنا، إلى التساؤل عن الخلفيّة الفكريّة والثقافيّة، التي تنبثق منها هذه المقولة، وإلى أيّ منظومة تنتمي؟

لعل ما تشي به هذه المقولة، ذاك العصر، الذي تتضخم فيه الحال الفردانيّة، أو كما يحلو للبعض تسميته (دولة الفرد)، وهو ما يجعلنا نسأل عن حال ذاك الفرد الدولة، الذي سلخ من كينونته وذاتياته، بشكل مفاجئ من عالمه الأرضي والطبيعي، والمُفرّغ من منظوماته القيميّة، ليعيش مع أقرانه في عالم افتراضي، خارج إطاري الزمان والمكان بمحملهما القيمي، يحلّق فيها ككائن فضائي منسلخ من كينونته أو قُلْ جوهره وماهيته (هويته)، وهو ما يجعله يعيش حال الازدواجيّة والتـأرجح بين صلابة مصدره وهشاشة واقعه، بعيدًا عن مقتضيّات الحال يسبح فيه ليضحي معها بطبيعة فضائيّة، متفلت من كل القيم، بل هو مجرد رقم في عالم لا متناه، بهويّة افتراضيّة، في فضاء مفتوح مخترق لحدود الهويّة الوطنيّة والثقافة المحليّة (اللّغة – الدين – التاريخ… وعناصر أخرى )، مع كل ما يدخل في تشكيل هويته الحقيقيّة.

وهنا تتراءى الأسئلة في أيّ موطن تتجسد هذه الهويّة الافتراضيّة؟ هذه الهويّة الافتراضيّة، لا بدّ أن يتولد منها  مواطنة افتراضيّة، قوامها فضاء افتراضي ألكتروني تكنولوجي، فيه تعدد الهويّات، وتداخل القيم، وتهاوي الخصوصيّات، وتزييف المشاعر، في عالم تنبثق فيه حقوق وواجبات جديدة تضع الهويّة بمفهومها التقليدي في مأزق، نتيجه إكراه هذه الهويّات والمواطنيّات الذي أُدخل في هذه العالم الافتراضي بطريقة قسريّة، وهو ما يجعل التوطن فيه، في وضع مضطرب وغير آمن، على الرغم من السلوك التفاعلي للأفراد فيما بينهم باستخدام الأدوات والمصادر الرقميّة بمختلف أنواعها ومصادرها…

ولذلك اقتضت الضرورة وضع ضوابط ومعايير في استخدامات التكنولوجيا الرقميّة المتعددة، وكذلك في ترسيمات الحقوق والواجبات في العالم الرقمي.

وهنا نجد أنّ المواطنة العالميّة، التي تبـدأ بفكـرة انتماء المواطن إلى هذا العالـم، ومسـؤوليّته المشتــركة تجــاه كوكب الأرض الذي يعيش عليه، ليحافظ عليه ويعيـش بكرامة، قد سقطت في شرك العولمة، فكيف تتحقق هذه المواطنة في العصر الافتراضي؟ هو سؤال متخم بالشك في تحققها، باعتبار أنّ من أنتج هذا الواقع هو من يتحكم في هذا الفضاء، وبالتالي يفرض قيمه، على ما عداه، ليبقى الآخرون على الهامش، ومجرد صدًى له في سوق استهلاكيّة في كل الصعد والمستويّات، ومعها تتشظى الهويّات، وتتلاشى العاطفة، وكل ما له علاقة بنسج الهويّة من ذاكرة وخيال وعاطفة…

إذا كان هذا هو حال المواطنة الافتراضيّة في عولمة تفرض نفسها على المشهد العالمي بكل تجليّاته، مع ما فيه من طمس لهويّات الشعوب وسحق لماضيها، وقتل لحاضرها، والتحكم بمستقبلها من خلال شبكة ضخمة من الإعلام والثقافة والفكر، والاقتصاد… وبمسميّات ملونة وجاذبة، تؤدي إلى تسطيح فكري وثقافي مُضلّلٍ ومُزيف، كما يعمل على فرملة الديناميّات والخصائص الذاتية المُولّدة للشعور الذي ينحو باتجاه هويّات تؤسس لمواطنة إيجابيّة، ونقله إلى شعور زائف لمواطنيّة مزيفة، حيث يتشابك فيه الثابت بالمتغير، من خلال الاشتباك المفهومي، كمثال في الخلط بين الهويّة والجنسيّة على المستوى الشخصي، أو من خلال نقل المفهوم من منظومة قيميّة ومعرفيّة إلى منظومة قيميّة ومعرفية مغايرة لها تمامًا، أو قد تكون على تناقض معها، والمواطنة المحليّة ببناها ومكوناتها وعناصرها المختلفة التي تتفاوت بين منظومة قيميّة وأخرى (الدين – اللّغة – التاريخ)، (السيادة – الحدود – اللّغة) وغيرها الكثير من المكونات، وبالتالي ذوبانها في المواطنة العالميّة (العولميّة)  المرتكزة على مركزيّة حضاريّة (وفق معايير الديمقراطيّات الغربيّة) تفرض قيمها على ماعداها، باعتبارها الحقيقة المطلقة، وما عداها تخلف وانحطاط…

وعليه إذا كانت المواطنة “تأدية الحقوق والواجبات بين الإنسان الطبيعي والمجتمع السياسي (الدولة)، لتحقق، العدل، المساواة، الحريّة، المشاركة، التسامح، الحوار، وقبول الآخر، المساءلة، الموازنة بين الحقوق والواجبات”، الانفتاح، السيادة، الاستقلال، وهي مفردات، لا تغيب، في الغالب، عن أيّ منظومة فكريّة تنشد قيام الدولة، ولكن يبقى الاختلاف في تفسيرها، ومرامي التوظيف المبتغاه من إثارتها أو تناولها…

وبالرغم من أهميّة إطلاقها تبقى مجرد كلمات منتفية الغاية، ولا تحقق المواطنيّة الصالحة، ما لم تقترن بصدق المشاعر، مع وعي لحقيقة الذات والمجتمع، وانعكاسها في أرض الواقع ممارسة وسلوكات، وهنا قد نقع في زيف الواقع المدّعاة في حال من التناقض، وربّما التشابك بين جماعات مختلفة الأهواء والنزعات، التي تغلب منافعها الماديّة على حساب القيم الانتمائيّة، حيث تستغرق المواطنـة الحقيقيّة فـي مجال المنافـع الاقتصاديـّة، أو ربّما الارتماء في متاهات الانسحاق الفكري، ونسف مضامين البنى التي تدعو إلى تحقيقها، نتيجة لشبهات مفهوميّة، أو الوقوع في كمائن التضليل والتزييف….

وهنا نعود إلى السؤال المركزي، لماذا نحن نعيش هذا الواقع؟ كيف نفهم هويتنا؟ كيف نحقق ذواتنا؟ كيف نحرر كينونتنا من أثقال التعصب، والمصالح الآنيّة والجماعاتية؟ وصولًا إلى مواطنيّة إيجابيّة، والأهم من كل ذلك كيف نرسم ملامح شخصيّات متعلمينا وناشئتنا لنبني الوطن المستقبل الذي يليق بأبنائه، ويليقون به؟

*باحث في القضايا الفكريّة والتربويّة والتاريخيّة.

عن tarbiagate

شاهد أيضاً

فرع بعلبك الهرمل لرابطة الثانوي: لإمتحانات رسمية موحّدة لكل لبنان

بوابة التربية: طالب فرع بعلبك- الهرمل لرابطة التعليم الثانوي إجراء امتحانات رسمية موحّدة لكل لبنان …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *