الخميس , ديسمبر 11 2025

ملف  التفرّغ في اللبنانية: بين تاريخٍ مثقل بالتوازنات الطائفية ومظلوميةٍ دائمة لأساتذة متعاقدين

 

 

بوابة التربية- كتبت الدكتورة كلير خطار فخرالدين:

 

منذ تأسيس الجامعة اللبنانية، شكل ملف التفرّغ أحد أكثر الملفات حساسية وتعقيداً، نظراً لارتباطه المباشر بالوظيفة العامة، وبالمسار الأكاديمي والبحثي، وبحق المئات من الأساتذة المتعاقدين بالانتقال الطبيعي إلى موقع الأستاذ المتفرّغ. غير أنّ هذا الملف لم يُقارب يوماً باعتباره استحقاقاً أكاديمياً بحتاً، بل أصبح، عبر التاريخ اللبناني الحديث، مساحةً تتقاطع فيها الحسابات الطائفية والسياسية، وتتداخل فيها الاعتبارات العددية والمرجعية والطموحات الشخصية، بعيداً عن معايير الجودة الجامعية أو الحاجة الأكاديمية الفعلية.

أولاً: جذور المشكلة التاريخية

تعود جذور الأزمة إلى مرحلة ما بعد الحرب، حين استقرّ النظام اللبناني على قاعدة “المحاصصة” في الإدارة العامة. وبما أنّ التفرّغ يُعتبر عملياً دخولاً إلى ملاك الجامعة اللبنانية، بخلفية وظيفة عامة، تحوّلت الملفات منذ تسعينيات القرن الماضي، إلى حصص موزّعة على الطوائف والقوى السياسية، لا على أساس الحاجة أو الكفاءة.

ومع كل دورة تفرّغ، يتكرر السيناريو ذاته:

* لوائح جاهزة بالأساتذة المستحقين

* لجان أكاديمية ترفع تقاريرها

* ثم تبدأ مرحلة الأرقام: عدد المسيحيين، عدد المسلمين، عدد كل طائفة، ومن يضمن التوازن؟

فتتقدّم الحسابات الطائفية على المعايير العلمية، ويُعاد خلط الأسماء، وتأجيل الملفات، وحذف أسماء وإضافة أخرى، إلى أن يصبح التفرّغ مرهوناً بالتوافق السياسي لا بالجامعة نفسها.

ثانياً: سقوط الملف في متاهة الأعداد والتوازنات

تكمن الطامة الأساسية  في أنّ ملف التفرّغ يُدار كما لو كان “معادلة سياسية” لا “ملفاً أكاديمياً”، ويتحوّل كل اسم إلى رقم، وكل رقم إلى محسوب لطرف معيّن، فيدخل الملف في متاهات:

  1. توازن طائفي صارم وغير منصوص عليه، علماً أنّ المادة 95 من الدستور اللبناني تنص صراحة على إلغاء القيد الطائفي في الوظائف العامة باستثناء الفئة الأولى، بينما التفرّغ ليس من الفئة الأولى، ولا ينطبق عليه أي موجب توازن طائفي. لكن الممارسة الفعلية تخالف النص الدستوري، وتفرض عرفاً موازياً أقوى من الدستور نفسه.
  2. توزيع الأسماء على قاعدة “من يأخذ أكثر؟” فيُصبح الملف مفاوضة بين القوى السياسية لا دراسة أكاديمية.
  3. تعليق الملف كلما اختلفت الأطراف، ما يؤدي إلى تعطيل دور الجامعة وإبقاء مئات الأساتذة في حالة هشّة وغير مستقرة لسنوات.
  4. تضخّم ظاهرة “تسويق الأسماء” بدلاً من أن تُرفع الكفاءة الأكاديمية إلى الواجهة، يُرفع “الغطاء السياسي والطائفي” كممرّ إجباري.

ثالثاً: المظلومية التاريخية لأساتذة الجامعة اللبنانية المتعاقدين

يُجمع آلاف الأساتذة المتعاقدين على أنّهم يشكّلون أكبر مظلومية إدارية – أكاديمية في القطاع العام اللبناني، لأنهم:

* يقومون بكل واجبات الأستاذ المتفرّغ من تعليم وإشراف وبحث ونشاطات، من دون أيّ من حقوقهم.

* يستمرّون لسنوات طويلة “متعاقدين ساعة” بلا ضمان، ولا راتب ثابت، ولا استقرار وظيفي.

* يُمنعون من التفرّغ ليس بسبب نقص الكفاءة، بل بسبب غياب “الرقم المناسب طائفياً” أو “التوازن المطلوب سياسياً”.

* تُحجب حقوقهم لاعتبارات وحسابات سياسية، رغم أنّ الجامعة حاجة وطنية عامة وليست مؤسسة حزبية.

والمؤسف أنّ هذا الواقع يتكرر في كل دورة تفرّغ، وكأنّ الجامعة رهينة صراع لا علاقة لها به.

رابعاً: الإشكالية المتكررة حول أحقية وأولوية تفرّغ المتعاقدين الموظفين

إلى جانب العوائق الطائفية والسياسية، تبرز في كل ملف تفرّغ حالة من “اللف والدوران” حول أحقية وأولوية تفرّغ المتعاقدين من فئة الموظفين في الإدارات العامة. ويتحوّل هذا النقاش، في كل دورة، إلى ذريعة إضافية لتعليق الملف أو إعادة ترتيبه، رغم وضوح الوضع القانوني الذي لا يميز بين المتعاقد الموظّف والمتعاقد غير الموظّف في شروط الاستحقاق الأكاديمي.

وهذا التعاطي، بما يحمله من التباس مقصود ومن استنسابية غير مبرّرة، يشكّل ظلماً مضاعفاً، إذ يُمنح البعض أفضلية أو يُحرم آخرون منها، لا على أساس معايير علمية أو أكاديمية، بل وفق اعتبارات ظرفية لا تمتّ بصلة لجوهر العملية التعليمية.

خامساً: تناقض صارخ مع الدستور ومعايير العدالة

الممارسة القائمة في ملف التفرّغ تخالف بوضوح:

  1. المادة 95 من الدستور: التي تنص على استبعاد التوازن الطائفي عن الوظائف العامة (باستثناء الفئة الأولى)، بينما ملف التفرّغ لا يدخل ضمن تلك الفئات إطلاقاً.
  2. مبدأ المساواة أمام القانون: إذ يخضع الأساتذة لاستنسابية سياسية لا لمعايير موضوعية.
  3. مبدأ استقلالية الجامعة: إذ إنّ التدخلات السياسية تشكّل انتهاكاً واضحاً لحق الجامعة في إدارة شؤونها الأكاديمية باستقلالية، فيُسلب رأيها العلمي وتصبح جزءاً من صفقات لا علاقة لها بالمصلحة التعليمية.

سادساً: أثر هذه الأزمة على الجامعة اللبنانية

إن استمرار الملف على هذا النحو يترك آثاراً كارثية:

* هجرة الكفاءات، لأنّ الأستاذ غير المستقر لا يستطيع بناء مسار بحثي طويل.

* تراجع جودة التعليم مع إبقاء عشرات الساعات على متعاقدين مرهقين بلا ضمانات.

* تراجع مكانة الجامعة أمام الجامعات الخاصة التي توفّر استقراراً وظيفياً.

* تعطيل الخطط الأكاديمية لأنّ كلّ كلية تجهل متى وكيف سيُحسم ملف الأساتذة الذين تعتمد عليهم.

سابعاً: الخلاصة

إنّ ملف التفرّغ، تاريخياً، ليس مشكلة أكاديمية ولا مالية ولا إدارية، بل هو انعكاس مباشر لخلل بنيوي في النظام اللبناني القائم على التوازنات الطائفية. وما لم يُعاد الملف إلى أساسه الطبيعي ــ أي الكفاءة والحاجة الأكاديمية والعدالة ــ ستستمر المظلومية، وسيظل الأستاذ المتعاقد الحلقة الأضعف.

إنّ الجامعة اللبنانية لن تُنقذها الموازنات، بل تحريرها من الحسابات الطائفية والسياسية، وتطبيق الدستور نصاً وروحاً، ووضع حدّ نهائي لاستنسابية ملف التفرّغ. فالتفرّغ ليس “هبة سياسية”، بل حق أكاديمي يأخذه من يستحقّه، بناءً على حاجة الكليات، وتقييم لجان الاختصاص، ومعايير الجودة، لا على قاعدة “كم عدد كل طائفة” ومن يوافق ومن يعترض.

عن tarbiagate

شاهد أيضاً

نضالُ الأساتذةِ من أجلِ رواتبِهم ليسَ نضالاً نقابيًّا ضيّقًا

    بوابة التربية- كتبت مريم يوسف الصلح:   تذكرتُ إحدى العبارات لأحد المسؤولين التربويين …