
بوابة التربية- كتبت الدكتورة كلير خطار فخرالدين:
يُطرح في الآونة الأخيرة خيار تقسيم ملف تفرّغ الأساتذة المتعاقدين في الجامعة اللبنانية إلى مراحل متعاقبة، وربط هذا التقسيم بتوافر الاعتمادات المالية. غير أنّ هذا الطرح يثير، قبل أي نقاش آخر، مسألة قانونية جوهرية تتعلّق بمدى مشروعية إخضاع استحقاق وظيفي منصوص عليه في أنظمة تنظيمية نافذة لاعتبارات مالية ظرفية، وبمدى جواز تجزئة قرار إداري منشئ لمراكز قانونية مكتملة الشروط
أولاً: في طبيعة التفرّغ كقرار إداري منشئ لمركز قانوني
إن التفرّغ في الجامعة اللبنانية، وفق الأنظمة والمراسيم التي ترعى شؤونها، ليس إجراءً تنظيمياً أو تدبيراً إدارياً مرحلياً، بل هو قرار إداري ينشئ مركزاً قانونياً جديداً للأستاذ المتعاقد. ومتى استوفى هذا الأخير الشروط المحدّدة قانوناً، يصبح هذا المركز مستحقاً حكماً، وتغدو سلطة الإدارة في تقريره سلطة مقيّدة، لا تقديرية. وعليه، لا يجوز للإدارة تعليق نشوء هذا المركز أو تجزئته أو ربطه بمعايير غير واردة في النصوص النافذة.
ثانياً: في أثر وجود النص الواضح على سلطة الإدارة
من المبادئ المستقرة في القانون الإداري أن وجود النص الواضح والصريح يُسقط الاجتهاد ويمنع الاستنسابية. فالإدارة، عند تطبيق نص تنظيمي نافذ، لا تملك صلاحية تعديله أو استكماله أو إعادة تفسيره بما يؤدي إلى تعطيل مفاعيله. إن استحداث معيار كفاية الاعتمادات المالية كشرط لتقرير التفرّغ يشكّل خروجاً عن مضمون النص، وتحويلاً لسلطة مقيّدة إلى سلطة تقديرية خلافاً للأصول.
ثالثاً: في عدم جواز إخضاع الاستحقاق الوظيفي للاعتبارات المالية
إن الاعتبارات المالية، وفقاً لأصول القانون العام، لا تُنشئ حقاً ولا تُسقطه. فالتمويل هو مسألة تنفيذية تقع ضمن مسؤولية السلطة التنفيذية، ولا يمكن أن يتحوّل إلى شرط مسبق لتعليق أو تجزئة الحقوق الوظيفية. إن ربط التفرّغ بتوافر الاعتمادات يُفضي عملياً إلى تعليق تطبيق النصوص التنظيمية، وهو أمر غير جائز قانوناً، ويُعدّ إخلالاً بمبدأ المشروعية.
رابعاً: في مخالفة مبدأ المساواة بين المستوفين للشروط
إن تقسيم التفرّغ إلى دفعات زمنية، من دون سند نصّي صريح، يؤدّي إلى معاملة مختلفة لأساتذة متماثلين في المركز القانوني ذاته. فالأستاذ المتعاقد الذي استوفى الشروط القانونية للتفرّغ يتمتع بالوضع القانوني نفسه الذي يتمتع به غيره من المستوفين، ولا يجوز إخضاعه لمصير مختلف استناداً إلى توقيت إداري أو إلى اعتبارات ظرفية. ويشكّل هذا التمييز مخالفة صريحة لمبدأ المساواة في الوظيفة العامة.
خامساً: في البعد الوظيفي–الاقتصادي للتفرّغ
يقتضي التوقف عند واقع قانوني–اقتصادي أساسي، يتمثّل في أن التفرّغ لا يرتّب للأساتذة المتعاقدين أي تعويض عن سنوات الانتظار السابقة. فلا مفعول رجعي لقرار التفرّغ، ولا تصحيح للأوضاع المالية يعكس سنوات الخدمة الفعلية المنجزة قبل صدوره. وعليه، يكون الأساتذة قد تحمّلوا كامل الكلفة الاقتصادية للتأخير الإداري من دون أي جبر لاحق للضرر.
سادساً: في حدود مسؤولية الأساتذة ومسؤولية الإدارة
إن تحميل الأساتذة المتعاقدين تبعات السياسات المالية العامة، أو ربط حقوقهم الوظيفية بإمكانات الخزينة، يُعدّ خروجاً عن المنطق القانوني السليم. فمسؤولية تأمين الاعتمادات اللازمة لتنفيذ القوانين والمراسيم تقع حصراً على عاتق السلطة التنفيذية، ولا يجوز نقل هذه المسؤولية إلى أصحاب الحقوق أو جعلهم رهائن لعدم كفاية التمويل.
سابعاً: في مسألة الأمن الوظيفي واستمرارية المرفق العام
إن إبقاء شريحة من الأساتذة في حالة انتظار مفتوحة، من دون أي ضمانة قانونية صريحة بانتقالهم لاحقاً إلى التفرّغ، يُنشئ وضعاً قانونياً هشّاً يتعارض مع مبدأ الأمن الوظيفي، ويؤثّر سلباً على استمرارية المرفق العام وانتظامه. فالجامعة اللبنانية، كمرفق عام وطني، لا يمكن أن تُدار مواردها البشرية بمنطق التعليق أو التسويات المرحلية غير المستندة إلى نص.
خلاصة
إن ملف التفرّغ في الجامعة اللبنانية ليس مسألة مالية ظرفية، بل مسألة مشروعية إدارية بامتياز. فحيث يكون النص واضحاً، تكون سلطة الإدارة مقيّدة. وحيث ينشأ المركز القانوني، يلتزم القرار الإداري بتنفيذه كاملاً ومن دون تجزئة. وأي مسار مخالف لذلك يُعدّ خروجاً عن أصول القانون الوظيفي، ويحوّل الاستحقاق القانوني إلى منحة إدارية، وهو ما لا يستقيم مع مبادئ الإدارة العامة ولا مع مقتضيات العدالة الوظيفية.
بوابة التربية – Tarbia gate بوابة التربية – Tarbia gate